برحيله عن عمر جاوز التسعين عاماً، يطوي فيديل كاسترو الصفحة الأخيرة في كتاب “صعود الشيوعية وهبوطها” … كتابٌ كان لكاسترو وصديقه التاريخي، صنو روحه، تشي جيفارا، مساحة واسعة بين دفتيه…الأول ارتبط اسمه كما لم يرتبط أي اسم آخر، بانبعاث حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والثاني، تحوّل لـ “أيقونة” للحركات الشبابية والاحتجاجية، حتى في قلب عواصم الرأسمالية العالمية.
ألهم انتصار الثورة الكوبية، على مرمى حجر من مركز “الإمبريالية العالمية” شعوب العالم وحركاته التحررية والثورية الساعية للخلاص من الاستعمار … ونهض كاسترو بقامته العملاقة وصورته التي لم تتبدل، كشاهد على قدرة شعب صغير على تحدي قوة عالمية جبارة، حتى أن التقاط صورة تذكارية مع الرجل، بات “مصدراً من مصادر الشرعية” لكثير من القادة اليساريين والثوريين في العالم.
من تابع التغطيات الكثيفة لخبر رحيل “الكومندانتي”، أدرك أن الرجل قد رحل سياسياً عن هذه الدنيا منذ أزيد من عقدين من الزمان، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين وتحول الصين إلى نوع من النظام الهجين “رأسمالية اقتصادية” و”شمولية سياسية”… وإذ وفرت له ظاهرة صعود اليسار اللاتيني نسغاً من الحياة، مكنت من إطالة عمر “الرمز”، إلا أن التعثر الذي أصاب أنظمة اليسار في تلك القارة بعد مرحلة صعود، عاد ليلقي بظلاله على الجسد الناحل والهزيل.
في العقد الأخير، تحرر فيديل عن أعباء القيادة – رسمياً – ليتولى كاسترو آخر مقاليد السلطة والحكم… راؤول أخفق في ملء فراغ فيديل، وحكم البلاد من داخل “جلباب” أخيه، تماماً مثلما حدث في فنزويلا المجاورة … حيث أخفق نيكولاس مادورو في ملء فراغ الزعيم الكارزمي هوغو تشافيز … والأرجح أن كوبا التي دخلت عصراً جديداً من المصالحة مع الغرب الرأسمالي دشنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، لن تبقى كما كانت عليه زمن “الكومندانتي”… وسنرى بعد زمن ليس ببعيد، أعلاماً وصوراً أخرى في ترفع في شوارع هافانا … إنها سُنّة التغيير، التي تحيل رجالاً لعبوا أدوراً محركة للتاريخ، إلى صور معلقة على جدران متاحف الشعوب وفصولاً في كتب التاريخ.
ردود الفعل العالمية على رحيل كاسترو، تراوحت ما بين الرثاء والتمجيد، إلى الهجاء والشماتة … من تضرر من الكوبين من تأميماته الكبرى وسياساته القائمة على هيمنة “الحزب الواحد” والقبضة الحديدية، احتفوا في شوارع ميامي وشاركهم “شماتتهم” تلك، معسكر اليمين في الولايات المتحدة والدول اللاتينية … هؤلاء لم يروا في تجربة كاسترو إلا هذا الجانب، الذي يغفله بالمقابل، أنصار الرجل ومؤيدوه، الذين غفروا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لاتخاذه مواقف معادية للإمبريالية والاستعمار … كوباً الثورة التي نجحت أن تكون “أيقونة” للاستقلال والتحرر، أخفقت في تقديم تجربة في الحكم تحفظ للكوبين حرياتهم وحقوقهم وتعدديتهم، هذا أمرٌ لم يكترث به يسارييونا وثورييونا، فلا صوت عند هؤلاء، يعلو على صوت المعركة ضد الإمبريالية.
والحقيقة أن ليس في مواقف قادة هذا التيار ورموزه ما يدعوللصدمة، فهم انتصروا لدكتاتوريين عرب أقزام، عاثوا قتلاً وفساداً وتخريباً في أوطانهم وضد شعوبهم، ضاربين عرض الحائط بحقوق شعوبهم وحرياتها، وبمنظومة القيم والمبادئ التي يتغنون بها، ودائماً بذريعة “لا صوت يعلو على صوت المعركة مع الإمبريالية وأذنابها” في المنطقة.
قادة اليسار العربي ومن تبقى من زعاماته ورموزه، سارعوا كما هو متوقع في استذكار صفحات مجيدة من حياة القائد فيديل … لجأوا إلى قواميسهم القديمة في تدبيج بيانات النعي والتخليد، لكأنهم ينعون أنفسهم وحركاتهم بالذات، التي باتت تحتل مساحات هامشية، تتقلص باستمرار … لقد رحل اليسار في منطقتنا عن الخريطة السياسة والحزبية قبل أن يرحل “الشيوعي الأخير” عن هذه الدنيا، بعد صراع طويل مع المرض.
والمفارقة أن اليسار المتآكل في منطقتنا لم يكتشف الحاجة بعد، لسبر أغوار الأسباب التي أدت لانكماشه المستمر، وظل على استمساكه بلغته ومفرداته التي كانت سبباً في تهميشه وتهشميه، بعد أن انتقلت رايات الاحتجاج الحمراء على المظالم الاقتصادية والاجتماعية والوطنية والقومية، من أيدي هؤلاء إلى أيدي الجماعات والحركات الإسلامية، التي صبغتها بالأسود والأخضر … في حين، نجح اليسار اللاتيني في أن يظل المعبر والممثل عن حركات الاحتجاج هذه، وتصدر المشهد لردح من الوقت بخطاب جديد ومفردات جديدة، قبل أن تبدأ عقارب ساعته بالعودة إلى الوراء، كما تشير لذلك أزمات الحكم في عدد من الدول والمجتمعات التي جاءت باليساريين إلى سدة الحكم، وعبر صناديق الاقتراع.
أمس، التحق كاسترو بجيفارا بعد نصف قرن من الفراق القسري، تاركين وراءهما قصصاً ملهمة عن الإرادة والتصميم وقدرة الشعوب على اجتراح المعجزات … وقصصاً أخرى عن مصاعب الانتقال من الثورة إلى الدولة، فالشعوب لا تعيش حالة “ثورة دائمة”، فالثورة لحظة انتقال فقط، إن لم تأت الدولة بعدها، بكل ما تقتضيه حاجة الشعوب للحرية والديمقراطية والتعددية والتنمية، تصبح الثورة ذاتها، عبئاً عليها، وفصلاً مؤلما في كتب التاريخ.
الدستور