ثقافة الوهم .. "الخميني فلسطيني"، وحرائق حيفا "نصر الهي"!
رجا طلب
25-11-2016 05:45 PM
علينا الاعتراف نحن الكتاب والصحفيين والمحللين السياسيين الذين نعمل في وسائل الإعلام المهنية الرزينة بأننا نواجه تحدياً كبيراً قد يفقدنا في الفترة القريبة القادمة قدرتنا في التأثير على الجمهور المستهدف وذلك بسبب التنافس غير العادل بين المحتوى الذي نكتبه في معالجة القضايا الساخنة التي نعيشها أو تدور حولنا والتي تتميز بالدقة النسبية والحرص على استخدام المعلومات وتوظيفها بموضوعية قدر الإمكان، وبين ما يُكتب في وسائل التواصل الاجتماعي. ففي تلك الوسائل يكتب كل من "هب ودب " ويكتب ما يحلو له من أفكار وأراء ونظريات بدون تدقيق أو تمحيص أو مراجعة علمية، أما العامل الأهم في تلك المنافسة أن المعلومة أية معلومة يتم تداولها تصبح بحكم الأمر الواقع "حقيقة" بين رواد تلك المواقع ويدور بشأنها نقاش ساخن يُغذيها ويجعلها مسالة "بديهية" لا شك فيها.
وإذا أردنا التدليل على هذه القضية فهناك يومياً عشرات المسائل والمواضيع التي تخترعها كذبة عابرة على فيس بوك أو فيديو مفبرك على واتساب أو تغريده يصاحبها هاشتاق مثير على تويتر، تعمل كلها مجتمعة في خدمة قضية واحدة فقط ألا وهي تعميم الشائعة وقتل الحقيقة وإلغاء منطق العقل وخاصة أن أغلب أبطال هذه الوسائل هم من جيل الشباب المتحمس المفتقد بدرجة كبيرة للوعي بكل أبعاده والمفتون بذاته وهمه الأول والأخير إبراز تلك الذات بصورة استعراضية مهما كان الثمن .
من خلال متابعتي خلال الأيام القليلة الماضية لما كُتب عن حرائق حيفا أصبت بالذهول والصدمة والسبب ليس منطق الشماتة "باليهود الكفار القتلة" حسب التعابير المستخدمة ولكن للأسباب التالية:
أولاً: لاعتبار الجزء الأكبر من رواد تلك الوسائل أن ما جرى في حيفا من حرائق هو انتقام إلهي من "اليهود" لمنعهم الآذان في القدس وحيفا وغيرها من مناطق فلسطين التاريخية، وهو ربط تغلب عليه "الرغائبية " من جهة البعض منهم، و"الغيبية" من جهة البعض الآخر، وفي الحالتين لا مسوغ عقلي لمثل هذا الربط على الإطلاق.
ثانياً: لوصف البعض من المتحمسين من رواد تلك الوسائل أن ما جرى هو انتصار للحق الفلسطيني، وفي الحقيقة كنت وما زلت أتمنى ذلك ولكن كيف وأين الانتصار؟
وهل الرياح العاتية التي حملت ألسنة اللهب إلى الداخل الفلسطيني في حيفا هي صناعة ثورية لمحمود عباس، أم لحماس أم ماذا؟ والأخطر أن تلك الحالة كلها من كتابات وتعليقات كانت مغلفة بين عنوانين الأول: "إسرائيل تحترق"، والثاني: فلسطين تنتصر، فأي تجهيل هذا الذي يجري لعقول أبناء هذا الجيل؟ وأي تسخيف هذا الذي يسوق الصراع مع إسرائيل والدفاع عن الحق الفلسطيني على هذا النحو؟
ثالثاً: لا أعلم كيف تحولت مزارع وأحراش حيفا العربية في نظر نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي إلى "إسرائيلية " حيفا مازالت مدينة عربية بكل ما تعني الكلمة من معني، والمتضررون من "النصر الإلهي" حسب بعض "الفيس بوكيون" وغيرهم من فلسطينيين وعرب.
ويقول أيمن عودة رئيس القائمة العربية المشتركة في الكنيست الإسرائيلي في توضيح للفهم الخاطئ لموضوع الحرائق باتجاهين الأول موضوع "الشماتة الغوغائية" باحتراق إسرائيل، والثاني في مواجهة الغوغائية الصهيونية التي تتهم عرب فلسطين بافتعال هذه الحرائق فيقول: الكرمل وكل بلادنا غالية على أرواحنا جميعاً وعشنا بهذا الوطن مئات وآلاف السنين ولم نحرقه، وأضاف أن الحرائق طالت تجمعات سكانية فلسطينية عربية أو اقتربت منها مثل أم الفحم، شعب وأبو سنان. وأن الاتهام الفوري للعرب يذكّر باللاسامية في أوروبا حيث كانوا يتهمون اليهود بحرق الأحراش وتسميم الآبار، وإذا كان هنالك فاعلون فيجب معاقبتهم بشدة مهما كانت قوميتهم!
وهم الانتصار يذكرني تماماً في عدة مراحل فارقة في تاريخنا المعاصر، كان الوهم الأبرز رؤية "وجه آية الله الخميني" في القمر لدي بعد الثورة على الشاه 1979، وانتشرت هذه الكذبة وبفعل ثقافة "القيل والقال" في الدوواين والمجالس وتم توظيفها على أنها دليل على أنه سيحرر الأمة الإسلامية من نير الصهيونية والاستعباد الأميركي، والناس الموهمون بتلك الحالة النفسية كانوا ينظرون للقمر معتقدين بفعل التأثير الانطباعي العام أنهم "يرون صورة الخميني"، لقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت هي تلك المجالس والدوواين والمقاهي وكانت تفعل فعلها المساوي لما تفعله تلك الحديثة الآن .
وفي ذاكرتي وحين كنت في منتصف العقد الثاني من عمري في الكويت أذهب إلى موائد عاشوراء التي كانت تقام هناك ولم أكن وقتذاك أملك ثقافة التمييز بين الطائفتين الشيعية والسنية، وكان من أبرز ما صدمني أنا وعدد اًمن أبناء الحي الذي كنا نعيش فيه أن من يقدمون لنا الطعام والشراب يقولون لنا "تضرعوا بالدعاء للخميني لأنه ولي الله" وكنت أسال ماذا يعني ذلك؟ كانوا يقولون "إنه فلسطيني يريد تحرير القدس بأمر من الله".
هذا الخطاب الكاذب والمضلل فعل فعله مع جيل كامل ومازال تأثيره فاعلاً على الكثيرين في العالم العربي إلى الآن.
التحدي الحقيقي لنا جميعاً هو كيفية التعامل مع سيل الجهل والاختلاق والأوهام التي تنتجها وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت قادرة على تحول الشيطان لملاك وتحويل الملاك لشيطان والأمثلة كثيرة؟
24