عندما خلعَ بزّتة العسكرية ذات مساء ، وعلّقها في الخزانة ، كان يودعُ عزيزا رافقه عقدين من العمر والتعب .. خلعها وكأنمّا خلعَ ضلعا من ضلوعه .. وللآن ما زالَ يضيقُ ذرعا ببذلات (السويل) وربطات العنق ، وما زال أيضا يتحسسُ جناح المظليين والأوسمة على الجانب الأيسر من صدره .. ربما كُنّ قريبات من القلب ، يخلدنَ إلى نبضاته ودفئه ... حتى عندما يسجد لله تعالى ، يتلّمس الشعار الذي ظل مستقرا أكثر من عشرين عاما أعلى الجبين ..
ذاكرة العسكر ملأى بالذكريات ، وبزملاء السلاح وكيف كانوا يقتسمون الليالي والسهر ، ويفترشون ما بين الدبابات ويشعلون (البابور) ويقتنصون إبريق شاي أو قلاية بندورة على عجل .
هي نفس الأصابع التي تقبض على البنادق ، وهي نفس الأيادي الخشنة التي تتناول الخبز الناشف ، مع وجبة غداء متأخرة، ربما تأكلها منتصف الليل .. يضع كفّه تحت الأخرى ، مخافة أن يسقط فتات الخبز على الأرض ، فهذه نعمة تستوجب الشكر لله حتى لو كانوا وحيدين تحت شمس الصحاري ، وحتى لو غابت عين الضابط عنهم .
في رائحة فوتيكهم عرق ، والكثير من التراب والتعب وملح البارود ، وبقايا من بخور الأمهات وشوقهم ، يخبؤون في صناديقهم صورة لزميل ذهب مبكرا للموت ، فظلت ذكراه مشتعلة وصورته معلقة بالصندوق .. وعلم الأردن وصورة الملك يزينان أعلى صندوقه .. وقرآن أهدته له أمه ليحرسه ، وشريط علاج للصداع وما أكثره هنا ، وربما أيضا محفظة فارغة إلا من أجرة الطريق في نهاية الأسبوع .
العسكر يعرفون بعضهم بعضا ، ويعرفون أسماء أولاد وبنات زملائهم ، وإسم الحبيبات ، وفوقها يحفظون دروب القرى والبوادي .. فقط في الجيش الجغرافيا تتساوى وتتشابه ، عندما تقف مع زميلك خفارة تسنده ويسندك ، ويؤمنون أن الوطن أكبر من كل التفاصيل .
ذاكرة العسكر من رصاص مسكوب ومن حب منظوم .. لا تهترئ ولا يصيبها زهايمر العمر ، ففيها مخزن من العمر وتفاصيله ، وفيها مساحة من الوطن وناسه ...
أنحازُ للعسكر ولطهر أياديهم النظيفة والقوية ، ولفقرهم الذي يشبهنا ، وأرى الوطن بعيونهم قويا وزاهيا ، رغم كل الكذب والزيف التي تشاهده في وسائل الأعلام ، ووجوه المنافقين والمتسلقين والشلل الفاسدة .