في نهايات القرن الماضي وقع عدوان أميركي بريطاني بسلاح الجو على العراق الشقيق , تزامن ذلك مع جلسة عادية لمجلس النواب الاردني برئاسة طيب الذكر عبدالهادي المجالي ,وإنسجاما مع الموقف القومي الاردني الطاغي دائما , إقترح نواب دعوة الاتحاد البرلماني العربي لعقد مؤتمر طارئ لبحث وإدانة العدوان , كان المرحوم الملك حسين آنذاك يتلقى العلاج في مشفى بالولايات المتحدة , وكان سمو الأمير الحسن ولي العهد في حينه في موقع نائب الملك.
حظي الاقتراح بموافقة جماعية من مجلس النواب الذي كلف رئيسه بإجراء الاتصالات العربية فورا لهذ الغرض , بالطبع وتنفيذا لقرار المجلس الذي أتخذ فجأة ودون سابق ترتيب ,
أجرى طيب الذكر رجل الدولة الفذ عبدالهادي المجالي , وفي ذهنه ربما ان العرب لن يوافقوا إنسجاما مع موقفهم المخاصم للعراق آنذاك, إتصالات مع نظرائه العرب لفحص آرائهم حول الإقتراح ومدى إستعدادهم لتبني عقد الإجتماع الطاريء بناء على إقتراح البرلمان الاردني, وكان الرد بالموافقة من جانب "المفاتيح" المعروفة في الإتحاد البرلماني العربي , ومنهم أحمد فتحي السرور رئيس مجلس الشعب المصري , الذي أجاب بالموافقة شريطة عقد الإجتماع في الاردن تحديدا , بإعتباره صاحب الإقتراح ! .
بالطبع , لم يكن أمام المجالي حجة لإقتراح مكان آخر للإجتماع , فالدعوة المقترحة جاءت من عمان , في زمن كانت علاقات الاردن مع قوى النفوذ الدولي التي نفذت العدوان في أسوأ حالاتها, عطفا على موقف الاردن من حرب تحرير الكويت والداعي إلى الحل العربي, والرافض للتدخل الاجنبي.
هذا فضلا عن عتب وحتى غضب دول الخليج الشقيقة من ذلك الموقف الاردني الذي لم يكن متوقعا من جانبها , وكانت وما زالت حتى ذلك الوقت , غير راضية عن الاردن.
المهم أن الدعوة الاردنية لإجتماع يدين عدوان اميركا وبريطانيا ولا يبدو مستساغا من قبل دول الخليج الشقيقة , جاءت في وقت حرج ومحرج للاردن الذي كان يعاني حصارا ويعمل جاهدا لتبرير موقفه من حرب تحرير الكويت ,عندما كان يدعو ويفضل الحل العربي على التدخل الاجنبي الذي تتكشف الآن إنعكاساته المدمرة على العرب جميعا , ولكن فات الأوان!
سقت تلك المقدمة الطويلة لأبين حادثة بسيطة جرت بين طيب الذكر المفكر والسياسي المحنك عدنان أبوعوده , وجعلتني أغير إنطباعي عنه كاملا لجهة إيجابية بعد أن كانت سلبية تماما.
عقد إجتماع الاتحاد البرلماني العربي في المركز الثقافي الملكي برعاية سمو الأمير الحسن بن طلال نائب الملك في حينه , ألقى الامير الحسن كلمة في حفل الافتتاح , وكانت كلمة عامة قوامها فكر مبدئي عن واقع العالم العربي ودور البرلمانيين العرب في إصلاحه وما شابه من أفكار .
لم ترق الكلمة للوفد العراقي وبالذات الأعضاء المشبعون بفكر ومنطلقات حزب البعث الحاكم, وما ان إنتهى الامير من كلمته المعمقة والواقعية, حتى بدأ أحد اعضاء الوفد العراقي بالإحتجاج متحدثا بصوت عال يؤازره آخرون من اعضاء الوفدين , العراقي وحتى الاردني , موجهين جام غضبهم ضد أميركا وبريطانيا والإمبريالية العالمية تماما , وفقا للنسق الذي كان سائدا في الدول الثورية العربية التي تعاني شعوبها اليوم مر الأمرين! .
سادت فوضى داخل قاعة المؤتمر, لتنقذ الموقف الإستراحة القصيرة التي اعلنها رئيس المؤتمر المهندس المجالي , علما بأن سمو الأمير وبأدب هاشمي جم , لم يعقب على ما حدث , وذهب إلى مكان الإستراحة مجاملا رئيس الوفد العراقي سعدون حمادي وآخرين من رؤساء وأعضاء الوفود وعلى الواقف , ليغادر بعدها , وليعود المؤتمر ومدته يوم واحد إلى الإجتماع ثانية مقترحا إصدار بيان بإسم الإتحاد البرلماني العربي يدين العدوان موضوع إنعقاد المؤتمر , ومكلفا الوفد الاردني الذي كان يضم أعيانا ونوابا بإعداد مسودة البيان.
وكان الغضب والإحراج سائدا بين أعضاء الوفد الاردني وبالذات الرئيس المجالي , ولسان حالهم يقول , تبرعنا وغامرنا نحن الاردنيين المحاصرين بسبب موقفنا معكم , بعقد مؤتمر مناصر لكم , وسط رفض عربي مبطن وغضب اميركي بريطاني معلن , ومع ذلك يتطاول أعضاء من وفدكم العراقي علينا في عقر دارنا , نعم كان موقفنا نحن الاردنيين متشنجا جدا جراء ما جرى , وبالذات التعرض لخطاب الامير نائب الملك بالإستهجان ! .
طلب طيب الذكر عبدالهادي المجالي مني كمستشار له , إعداد مسودة البيان الختامي للمؤتمر , قلت له , سأتصرف بناء على ما جرى مع سمو الامير نائب الملك هذا الصباح , قال بالحرف , خذ راحتك ! .
ذهبت إلى مكتبي وأعددت بيانا جله للأردن ومواقفه القومية ومبادراته وتضحياته من اجل العرب , فلم يكن أحد في ذهني وأنا اكتب غير بلدي الاردن وقيادته الهاشمية وشهداؤه وتضحياته من أجل العرب , ومع ذلك فهو كخبز الشعير مأكول مذموم ! , ولم أكن لحظتها أعير أدنى إهتمام لأحد حتى لو كلفتني صياغة البيان وظيفتي , وحتى لو اعتبروني متآمرا على المؤتمر ومنحازا للإمبريالية التي صدعوا رؤوسنا بها طويلا وهم ألأقرب منا جميعا لطلب ودها , فأشدت بخطاب الإفتتاح الذي ألقاه الامير الحسن وبموقف الاردن وإستضافته للمؤتمر وحسن إدارته له وكرم ضيافته , وأدنت بإسم الوفود كلها العدوان الاميركي البريطاني على الشعب العراقي الشقيق ووجهت التحية بإسم المؤتمر للاردن على مبادراته القومية وما يتحمل من تضحيات من أجل الأمة وقضاياها , ودعوت العرب إلى توحيد صفهم والتصدي مجتمعين لاعدائهم إلى آخر البيان الواقع في ثلال صفحات بخط اليد.
عرضت النص على المجالي الذي قال سأطلب من " ابو السعيد " العين عدنان أبو عوده قراءته فأطلعه عليه , هنا وللحقيقة شعرت بالضيق , فقد تبادر لي ان ابا السعيد قد ينسف النص عن بكرة أبيه , خاصة " وأعترف " انني قد تجاهلت تماما وعن عمد , فقرة طالب الاشقاء العراقيون بان يتضمنها البيان , لا أذكر بالضبط نص الفقرة , لكني أذكر انها لم تكن تتسق مع الأستراتيجية السياسية الاردنية العليا في وقت اردني حرج إقليميا وعربيا ودوليا.
ذهبت إلى الرجل المحترم العين عدنان أبو عوده واخبرته ان رئيس المؤتمر طلب ان أطلعه على نص البيان الختامي قبل قراءته امام المؤتمر في جلسته الختامية مساء , قال ابو السعيد آه وين النص , قلت عندي في مكتبي , قال بتواضع ينم عن ذات رجل دولة كبير , يا الله , على مكتبك , وهناك سلمته النص كاملا , وكان جوابه , ممتاز على بركة الله , وهنا كان لا بد أن أصدق معه , قلت , معاليك , لقد تجاهلت الفقرة التي طلبها الوفد العراقي بوضوح ولم أضمنها النص , قال , "لا إوعى لا تفتح لنا مشكلة جديدة , حطها فورا وبسرعة هات البيان فقد بدأت الجلسة الختامية التي ستناقشه", واضاف ابو السعيد , "طيب قل لي ليش تجاهلتها", قلت , عطفا على موقفهم هذا الصباح مع نائب الملك , فالاردن يغامر بمصالحه من أجلهم ووفدهم لا يقدر ذلك , لا بل منهم من تطاول ولم يحترم خطاب الامير نائب الملك ! .
هنا صمت ابو السعيد برهة , وقال بذهنية رجل الدولة الصادق في إخلاصه لبلاده ولوطنه ولنظامه , معك حق ,خلص هات البيان وإلحقني ولا تتأخر, وإذا صار إحتجاج لكل حادث حديث ! .
تلي البيان ولم يعترض أحد ومر كما هو مشيدا بالاردن وبمواقفه ومؤكدا على اهمية العمل العربي المشترك ومدينا العدوان على العراق وشاكرا للاردن مبادرته وشاكرا لسمو الامير الحسن نائب الملك رعايته للمؤتمر وخطابه الجامع في حفل الافتتاح إلى آخر النص.
من يومها عرفت عمق إخلاص وإنتماء المفكر الحقيقي لا المدعي أو المتزلف المنافق لا قدر الله , المحترم عدنان ابو عوده , وانا الذي كتبت ذات يوم مخالفا طروحاته.
أمد الله بعمرك أبا السعيد ومتعك بالصحة والعافية , واسمح لي ان اعتذر منك وان أبدي إعجابي بشخصك الكريم , وبما قلت حتى الآن في حديثك المستمر لقناة العربية من حقائق أنصفـت أناسا ظلموا طويلا وما زالوا , ومنهم شهيد العرب المرحوم وصفي التل , في غمرة لجة الفوضى العربية التي ما زالت قابعة في كثير من ارجاء الوطن العربي.
ملحوظة : في نهاية المؤتمر عقد رئيس الوفد العراقي سعدون حمادي مؤتمرا صحفيا حرصت على حضوره برغم نصيحة زميل بأن لا أفعل , وتوجيه سؤال محدد له مضمونه , هل تعتقد معاليك ان الاردن الذي غامر بمصالحه برغم الحصار والعزلة العربية والدولية التي يعيشها اليوم بسبب مواقفه معكم , يمكن أن يكون مجاملا او بكلام اوضح يسير في ركاب بريطانيا واميركا , فلو كان كذلك كا يقال , هل كان سيغامر دونا عن سائر العرب والمسلمين ويعقد لكم هذا المؤتمر برعاية ملكية لإدانة عدوانهم عليكم ! وهل كان لائقا أن يتفوه بعض اعضاء وفدكم ها الصباح بما قالوا تعقيبا على خطاب سمو نائب الملك في إفتتاح مؤتمر نصرة العراق هذا ! ! ! . المهم انه تحدث في كلام آخر ولم يجبني , وهنا تقتضي الامانة أن صحفيين اردنيين آزروني في سؤالي أذكر منهم الاستاذ جرير مرقة وزميلة نسيت إسمها.
والله من وراء القصد .