يبحثون عن الكرامة فقط .. !
حسين الرواشدة
21-11-2016 12:51 AM
الطينة التي خرج منها المواطن في اليابان او غيرها من البلاد التي تحررت من عقد الماضي والحاضر لا تختلف عن الطينة التي خرج منها المواطن في بلداننا، الفارق الوحيد ان المواطن هناك وجد من يحترمه ويتعهده بالرعاية والاهتمام والتقدير، فانطلق للعمل بحرية، وللابداع بلا حدود وللشعور بكرامته الانسانية في ظل حكومات تقيم موازين العدالة وتتعهد بخدمته لانها تحتاج اليه لا العكس، وتتصرف باعتبارها مدينة “لصوته” ووجودها مرتبط به، أما في عالمنا العربي فلا شيء أرخص من “الانسان” ولا شيء أسمى من السلطة (اي سلطة) ولا حق للمواطن الا ما تقرره “السياسة” العمياء التي تؤمن بأن هذا المخلوق وجد فقط للطاعة والإذعان.
هذه الخلاصة استدعتها قصة الطالبة اليابانية التي خصصت لها الحكومة قطارا ينقلها من المدرسة واليها ، بعد ان كانت على وشك ايقاف الخط لعدم وجود ركاب ، احتراما للتعليم كما ذكرت في قرارها ، ومع ان الخير لم يفاجئني ابدا ، لكنه دفعني الى التأمل في احوالنا لمحاولة اكتشاف اللغز الذي جعل غيرنا يتقدم ونحن ما نزال على الهامش.
القصة تزامنت ايضا مع مسألتين : احداهما ما يحدث في محيطنا من حروب وصراعات دمرت دولا وابادت بشرا واغرت طامعين واستدعت مخزونا كبيرا من الخوف والغبن والقهر ، والثانية ما يتعلق ببلدنا تحديدا حيث نجونا من هذا الكابوس وشهدنا في الايام الماضية ظاهرة انجازات سجلها شبابنا على مستوى العالم ، وكان من المفترض ان نتعلم من المشهدين ، مشهد النجاة ومشهد الانجاز لكي نتقدم الى الامام .
اين المشكلة التي جعلت غيرنا افضل منا ؟ اعتقد انها متعلقة بقضية اساسية وهي :الاحساس بالعدالة و بالكرامة،
ترى هل يشعر المواطن في بلدننا العربية بالكرامة الوطنية ، والكرامة – هنا – مرادفة لمفهوم المواطنة الحقة ، وكلاهما يعبر بشكل او بآخر عن قوة الوطن التي تستمد شرعيتها من قوة المواطن ، وسواء كانت الاجابة بلا او بنعم ، فان التباسات كثيرة طرأت على مفهوم الكرامة ، واذا كانت ذاكرتنا ما تزال تردد مقولة من نوع “ نموت ليحيا الوطن “ ، فان مجانية هذا الموت دفعت البعض الى استيلادها بمقولة اخرى هي “ نعيش ليحيا الوطن “ ، ولا فرق بين الموت والعيش – هنا – إلاّ بمدى حضور الكرامة او غيابها.. حضورها يمنح الخيارين معنى وقيمة ، وغيابهما يجردهما من اي مدلول او قيمة.
ثم هل يشعر بالعدالة ايضا ..؟اعرف انه لا يوجد مهمة تتقدم على مهمة تحقيق العدالة واقامة موازينها، واذا كان العدل هو الغاية المقصودة من الشريعة ومن الحكم فانه -ايضا- الغاية المرجوة من الاصلاح والاساس للحرية والتنمية، كما ان اقامة موازين العدالة وحمايتها من الاختلال مصلحة للدولة والمجتمع، لكن هل تحققت العدالة فعلا واحس الجميع انهم امام موازينها سواء..؟
لو سألتني من اين نبدأ ، لقت على الفور : نبدأ من الكرامة ، والكرامة – هنا – ليست مجرد كلمة مجردة ، وانما حالة تمارس وتتفاعل وتنمو ، قد تشعر بالمرض احياناً ولكنها سرعان ما تتعافى ، وبالقهر احياناً لكنها تتسامى ، وهي تحتاج الى تربة مناسبة ومناخات دافئة ، والى حاضنات سياسية واجتماعية وفكرية تحررها من الخوف ، وتحميها من الانجماد ، وهي – بالتالي – لا تُستدعى في حالات الخطر فقط ، ولا تستحضر عند الحاجة اليها ، وانما تتوالد بدافع الحب والرغبة ، وتصدر من ارادة حرة ، وتنتعش كلما أحست ببارقة امل ، او كلما تصاعدت قوة الوطن الذي تعتبر به ، وارتفعت اسهم المواطنة الحقة في بورصة الدولة التي تعتمد مسطرة الكرامة لقياس مكانة الانسان ـ المواطن فيها ، لا غيرها من المساطر.
والكرامة – ايضاً – انجاز ، وأيّ انجاز؟ لا يتحقق الا في الاوطان التي تستقي ارادتها من ارادة مواطنيها ، وفي المجتمعات التي تتمتع بعافيتها الاجتماعية والاخلاقية ، وفي الناس الذين تجاوزوا كل انواع الانتماءات والمصالح الضيقة الى الانتماء للوطن الواحد ، والمبادىء المشتركة ، والمصالح العليا التي شاركوا في تحديدها وتوافقوا عليها.
والكرامة الوطنية لا يمكن ان تنفصل عن الكرامة الشخصية ، ذلك ان احساس المواطن بالغبن او بالظلم او بغياب العدالة والمساواة.. الخ ، يجرح احساسه بالكرامة العامة ، ويرسخ لديه انواعاً شتى من الكراهية والانكفاء.. او فقدان الثقة وممارسة الوان النفاق الذي يضمن له استرداد جزء من المنافع الضائعة.
ما احوج الكرامات المجروحة – اليوم لمن يدافع عنها ، او لمن يعيد فتح ملفاتها المنسية ، او لمن يطمئن اصحابها – الاموات والاحياء – بان ارادة صيانتها وحمايتها من العبث ما تزال موجودة.. ولن تستسلم لذاكرة النسيان.
الدستور