إذا هبت رياحك فاغتنمها، ولكن ماذا إذا عصفت كل الرياح حولك لتحملك بالصدفة إلى مقدمة المشهد، هل تغتنم الفرصة وتتولى القيادة؟
فرض التغيير التاريخي في المنطقة على الأردن واقعا سياسيا جديدا بعد أن غابت أو غيبت عواصم مهمة كالقاهرة وبغداد ودمشق وغيرها وبعد أن أصبح الشأن الداخلي المضطرب هو الهم الأكبر لمعظم الدول العربية، وبعد أن كرست الأموال والطاقات لمزيد من القتل والدمار والتخلف، وبعد أن شوهت صورة العرب والمسلمين عبر العالم بفعل أيديهم أو بفعل أياد أخرى كثيرة عبثت بكل الأوراق ووجدت أرضا خصبة لنشر التفرقة والكراهية بين مكونات هذه البقعة الغنية بالتنوع ليصبح هذا التنوع أداة خطيرة لعدم تقبل الآخر بل وقتله أيضا.
في هذا المشهد القاتم الذي تلفه الفوضى والدمار وجد الأردن نفسه يؤدي دورا سياسيا كبيرا عجزالكثيرون عن أدائه وتذمروا لتحمل نذر يسير منه، ولكنه أداه رغم كل شيء ولا يزال يؤديه دون تردد فاستقبل اللاجئين من كل الدول العربية التي اختار أفرادها اللجوء إليه، وحمل على عاتقه رسالة الدفاع عن الإسلام في المحافل الدولية، ووضع أمام العالم تصورا للإسلام الحنيف الذي يحمل رسالة ربانية تدعو للمحبة والسلام وتنبذ القتل والعنف، وفرق خلال خطابه الذي تبناه لحمل هذه الرسالة بين الإرهاب والإسلام، وعزل هذه الفئة الإرهابية عن الإسلام ووضح بأنها فئة لا تمثله بل هي فئة خارجة عنه.
ينظر العالم للأردن اليوم بطريقة جديدة، ويراقب صموده أمام عاصفة (الربيع العربي)، هذا الصمود الذي حققه حتى الآن بوعي مواطنيه المحبين له والحريصين عليه والراغبين بأن يكون لربيعهم شكلا آخر تزهر فيه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ويسعى كثيرون منهم لتحقيقه بترجمة خطة الإصلاح الشامل التي من المفترض أن تطال كل مفاصل الحياة في الدولة الأردنية، بداية من إصلاح سياسي يقود إلى إصلاح اقتصادي وتعليمي وصحي واجتماعي وصولا إلى الغاية المنشودة من حالة متقدمة من دولة يسودها القانون والعدل.
هذه الغايات كلها تحتاج لرافعة إعلامية قوية وصحيحة تقدم خطابا مدروسا وجامعا، يمتلك المعلومة الكافية والدقيقة والقدرة على النقد والتحليل، بحيث تتبوأ هذه الآلة الإعلامية دورها ومكانتها المتوقعة كسلطة حقيقية في مراقبة التحول الديمقراطي والسعي نحو الإصلاح، وهذا الدور الكبير لا يمكن أن تقوم به أقلام مأجورة أو أصوات مرتجفة بل هو بحاجة إلى حريصين على الوطن يمتلكون قوة حرية التعبير المسؤولة بحيث لا يخشون في قول الحق لومة لائم.
في هذه المرحلة التاريخية غير المسبوقة، فقد المواطن العربي ثقته في الفضائيات التي ادعت سقفا عاليا للحرية وادعت تقديم الرأي والرأي الآخر، واستغلت حاجة المواطن العربي للتعبير وسماع صوته وشكواه، وقدمت له وجبة شهية طالما كان يتمنى الحصول عليها، فحصدت ثقته وربحت اهتمامه لفترة طويلة قبل أن يدرك المواطن العادي أنه أمام رسائل موجهة تسعى لتحقيق أهداف مرسومة ليست الديمقراطية وحرية التعبير واحدة منها، وأن النتيجة التي يراها المواطن العربي الآن ليست بأي حال من الأحوال هي النتيجة التي أراد دائما الوصول إليها، بل هو الآن أبعد ما يكون عن تحقيق آماله وتطلعاته.
في هذا السياق التاريخي السياسي غير المسبوق وجد المواطن العربي نفسه أمام واقع جديد يحمل تساؤلات كبيرة لا بد للإعلام أن يساهم في الإجابة عنها، ولكن الحالة الإعلامية الحالية تحمل هي نفسها علامات استفهام كثيرة وضعتها في أزمة ثقة تمحورت حول أهداف الفضائيات التي يعج بها المشهد الإعلامي. وهنا أعود إلى الفرصة التاريخية التي أتحدث وتحدثت عنها منذ سنتين على الأقل، وهي الفرصة الإعلامية التي هيأتها الظروف ونحتتها رياح التغيير لتقدمها على طبق من ذهب للإعلام الرسمي العربي الموجه للداخل ليستعيد جمهوره المفقود ولكن عليه أن يقوم بذلك بطريقة مدروسة تلبي حاجات المواطن الذي قادته تفاصيل الواقع الآن إلى أولوية العودة للشأن المحلي الذي أصبح برأي المشاهد يحتل أعلى درجات سلم أولوياته.
والإعلام الرسمي الأردني هو جزء من هذه المنظومة التي عليها الآن استعادة توازنها واستعادة ثقة جمهورها، وحيث أن الإعلاميين الأردنيين هم من ساهموا بقوة بإنشاء معظم الفضائيات العربية الكبيرة والصحف والمجلات والإذاعات المهمة فهم لا تنقصهم الخبرة ولا العلم ولا الإرادة للنهوض بإعلامهم الأردني لو تهيأت لهم الظروف المناسبة لذلك، بل إن هذا الإعلام الأردني قد يقود المشهد الإعلامي في الوطن العربي ككل عن طريق تبني خطاب إعلامي معتدل يعيد التذكير بالعناصر التي تجمع هذه الأمة بدل العزف المستمر على أسباب تفرقها وتشرذمها، ويقدم وجها حضاريا للإسلام المعتدل البعيد عن الإقصاء والتفريق ويترجم بذلك الرسالة والدور السياسي القيادي الذي يقوم به الأردن الآن نيابة عن الجميع .
نحن أمام أزمة ثقة في الإعلام هي جزء من أزمة ثقة بمؤسسات كثيرة وعلينا العمل بصدق وبسقف عال من الحرية لاستعادة هذه الثقة المفقودة، وفي ظل هذه الحاجة الملحة للمعلومة فإن المواطن سيبقى رهينة لأهداف وأغراض الإعلام الخارجي إذا لم يحصل على ما يريد من إعلامه. إصلاح الإعلام أولوية قصوى في عملية الإصلاح الشاملة ليقوم بدوره الأساسي كعين للمواطن ورقيب على كل عمليات الإصلاح الأخرى فكيف له أن يصلح وهو عليل؟