حين كتب الطيب صالح روايته الشهيرة موسم الهجرة الى الشمال، كان العالم على غير ما هو عليه الان، فالشرق كان ما يزال شرقا وكذلك الغرب والشمال، لهذا كان القادم من عالم الف ليلة وليلة والمضمخ برائحة البخور جاذبا لشقراوات لندن، او هكذا تخيل لأنه مسكون بهواجس جنسية .
الان، موجات المهاجرين تجازف بركوب البحار ، بقوارب سرعان ما تتحول الى توابيت، والغرب الذي كان ينسحر بالقادمين من الشرق اصبح يشعر بعسر هضم ديموغرافي لأن ثقافته المشبعة بالاستشراق صورت له ان هؤلاء جميعا قتلة ولديهم من فائض العدوان والشرور ما يكفي لإفساد عالمه الاخضر !
موسم الهجرة الى الشمال كان يعبر عن اشواق مكظومة لدى افارقة وآسيويين ضاقوا بعوالمهم، وبثالوث الفقر والجهل والمرض وتصوروا ايضا ان لندن وباريس وبروكسل وبرلين واخواتها هي بيلارس الاسطورية التي تخيلها الشاعر برخت وقال ان الناس كانوا يعتقدون ان من يصل الى بيلارس يشفى من المرض ويحقق الوصال بمن يحب ويصبح ثريا، لكن من حلموا بتلك المدينة واعدوا انفسهم للرحيل اليها استيقظوا ذات صباح على نبأ فاجع هو ان بيلارس قد اصابها الزلزال ودُمرت تماما ..
وسواء كان موسم الهجرة الى بيلارس او شطآن ايطاليا وفرنسا واسبانيا او الى بلاد واق الواق، فان ما يحدث الان هو ان المهاجرين جميعا بلا انصار، والاسوار تعلو كي تحول دون عثورهم على ملاذ …
لكن هؤلاء الذين يهاجرون بالجملة ويموتون بالجملة ايضا لم يهربوا من زلزال او بركان ولا من غزاة استهدفوا ارضهم وعرضهم، انهم هاربون من ذوي القربى ولديهم من الشقاء والاشباح التي عششت في الذاكرة ما يحرمهم من ان يرددوا ما قاله شاعرهم القديم وهو بلادي وان جارت علي عزيزة ، واهلي وان ضنوا علي كرام .
في العقود الماضية كانت الادمغة والكفاءات التي لا تجد لها مكانا في عقر الوطن تلجأ الى سياقات تتيح لها ان تنمو وتحقق ما تصبو اليه .
لكن ما يحدث الان هو ان المهاجرين يبحثون عن مأمن لأطفالهم وعن رغيف وليس عن مختبرات يجربوا فيها مهاراتهم العلمية
الدستور