في العالم اليوم إجماع على أن التغيير حقيقة يقبلها الجميع ويسهمون في إحداثها. ولا أحد يعارض فكرة أن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي التغيير. وفي كل الثقافات تتهيأ الأمم لإحداث التغيير ومواكبته واستثماره من أجل رفاهها وسعادتها، إلا نحن فإننا نقضي الكثير من الحاضر ونحن نستذكر الماضي الجميل ونتطلع للمستقبل بالشك والخوف والريبة، ونبحث دائما عن نوايا وأسرار دعاة التغيير باعتباره مؤامرة تستهدفنا.
وسط هذه الأجواء تنقسم النخب في مجتمعاتنا الى مجموعتين؛ الاولى تبشر بالتغيير على استحياء وتدعو إلى التفاعل معه بحذر واستثماره دون أن يمس الثوابت في حين تتولى الثانية مهاجمة التغيير والتشكيك بمقاصده وشيطنة دعاته باعتباره مؤامرة على الأمة للنيل من مجدها ومكانتها وعزتها. وبين هؤلاء وهؤلاء تقف الغالبية العظمى من أبناء الأمة على الحياد تراقب وتتساءل عن ما يحدث في محيطها والعالم، دون أن تتخذ موقفا مؤيدا أو معارضا لما يدور من أحداث، في حالة أشبه ما تكون بالضياع أو الاستلاب.
في الفضاءات الخاصة يمضي الناس الكثير من الوقت وهم يناقشون ما يدور في العالم من تقليعات وأحداث وتغيرات؛ تارة غيرمخفين إعجابهم بمكانة الإنسان ومستوى الرفاه ودرجات الحرية والتأثير، وتارة أخرى بإطلاق الأحكام والنقد لهذه التغيرات باعتبارها تبتعد بالإنسان عن الطبيعة وتعمّق الفردية وتفضي الى المزيد من التفكك والانحلال. هذه الخواطر والأحكام والمواقف التي يبديها البعض هي مادة للاستهلاك الآني الذي قلما تتجاوز أصداؤه الحيّز المكاني الذي دار فيه. في الأيام الماضية تحدّث الناس عن قضية الغاز الاسرائيلي والمناهج الدراسية وأنماط الجرائم الجديدة والانتخابات البرلمانية ونتائجها، وتداولوا نظريات متعددة حول النجاح والرسوب والمال السياسي وتحدثوا عن انتخابات رئاسة المجلس والمكتب الدائم والعوامل التي تحدد النجاح أو الفشل لمن يخوضون غمار العمل العام.
وكما تحظى القضايا المحلية بنصيب من الحوارات الدائرة بين الأفراد من مختلف المشارب والطبقات يتحدث الأردنيون في السياسة الخارجية ويناقشون علاقة دونالد ترامب مع فلادمير بوتين والسياسات المحتملة للإدارة الأميركية الجديدة وانعكاساتها على الشرق الأوسط وملفاته المعقدة.
السؤال الذي تنتهي به معظم الحوارات والأحاديث التي تتناول شؤون العالم والإقليم أو حتى ما يدور حولنا يتمحور حول حقيقة أن ليس بمقدورنا القيام بشيء. تارة نقول "الله يجيبما فيه الخير" وأخرى " نتمنى أن تكون العواقب سليمة" وفي غالبية الأحيان "الي كاتبه ربك بصير". الروح الانسحابية التي تسيطر على عقولنا ومزاجنا وليدة للإحساس بأننا أشخاص غير مؤثرين، وأن الأحداث تُصنع في مكان بعيد وما علينا الا القبول بالنتائج ومحاولة هضمها دون اعتراض عليها.
الواقع العربي لا يرى في الأمر أي غرابة؛ فالفرد ينشأ ليقبل هذا الواقع ويتكيف معه، فهو يتدرب على الطاعة والاستماع إلى التعليمات والامتثال إلى الأوامر، والثقافة الشعبية تفضل الاشخاص الذين يستمعون جيدا وينفذون التعليمات دونما اعتراض أو نقد، فهم أناس يمكن الوثوق بهم والاعتماد عليهم. والمسايرة خاصية محببة تتأكد الأسرة أن الأبناء يتقنونها قبل أن يصلوا إلى المراحل التي تتطلب التفاعل مع الأغراب.
في نهايات القرن الماضي قدم العديد من الفلاسفة والمفكرين المغاربة مشروعات فكرية تساعدنا على فهم بنية العقل العربي وتكوين العقل السياسي العربي، فقد سعى الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري إلى تقديم مقاربة الراعي والرعية كنموذج يساعدنا على فهم طبيعة العلاقة بين الحاكم العربي وشعبه وأسباب انسحاب الإنسان العربي من دائرة الفعل السياسي.
بالنسبة للجابري يقوم الحاكم بدور الراعي الذي يسهر لتنام الرعية وهو الحريص على أمنها وخلاصها، لذا فإنها تسلم أمرها له وتثق بأنه سيدير أمورها على أحسن وجه.
السعي لإحداث أي تغيير في مستوى المشاركة والمواطنة الفاعلة يحتاج إلى أن يتعامل مع هذه المفاهيم ويسعى إلى تفكيكها، وإلا فإن كل البرامج والمبادرات ومساعي رفع الوعي ستبقى حبرا على ورق.
"الغد"