خلافاً لأغلب التوقعات، ولمعظم استطلاعات الرأي، فاز ترامب الجمهوري الذي كان يحمل شخصية جدلية وغير مقنعة، خاصة فيما يتعلق بالسمة العنصرية وملامح خطاب الكراهية والتعصب الذي بدا في حملته الانتخابية، ولكن الحقيقة المخفية كانت أقوى من كل هذه المظاهر السطحية التي يقل أثرها عن وزن التوجهات السياسية المتعلقة بالمرحلة الجديدة على الصعيد العالمي، وما يترتب عليها من مساس عميق بالمصالح الأميركية.
ما ينبغي معرفته أن هناك ارهاصات قوية وواضحة لمعالم مرحلة جديدة تحمل في طياتها جملة من التغيرات العميقة التي ستطال الشرق الأوسط التي تمثل المنطقة الأكثر حيوية للأطراف الدولية، ومنطقة المساس بين المصالح الدولية المتعارضة، وهناك خطوات تمت وأنجزت، وخطوات أخرى قادمة على صعيد التوافقات الدولية والإقليمية التي تشكل بعداً استراتيجياً واسعاً، ويبدو أن أوباما والديمقراطيين أتموا برنامجهم الذي قام بجوهره على استيعاب مخلفات الحرب الأمريكية في افغانستان والعراق، ولكنهم لم يفلحوا في تحقيق نقاط حاسمة لصالح ميزان القوى الأميركي على صعيد مواجهة «الارهاب» أولاً، وعلى صعيد دمقرطة المنطقة واستقرار المنطقة العربية ثانياً، كما أعلن الأمريكان سابقاً، وهناك من يجزم بتراجع الدور الأمريكي وانحساره قليلاً لصالح بروز الدور الروسي، الذي كان أكثر وضوحاً وحزماً، حيث حصد مجموعة من النقاط في جولات المواجهة الأخيرة، مما ولّد إحساساً قوياً لدى النخبة السياسية الأمريكية ولدى الناخب الأمريكي بضرورة اللجوء إلى برنامج الحزب الجمهوري الذي يميل نحو الجرأة في استخدام القوة وأكثر ميلاً لأسلوب الحسم في كثير من الملفات السياسية، بالإضافة إلى حيوية الشعب الأمريكي وقدرته على التغيير.
كثير من التعليقات السياسية التي برزت على الساحة الإعلامية العربية، كانت متشائمة، وساخرة أحياناً، وربما هناك بعض التوجسات ومظاهر القلق من فوز ترامب، وكثير منها اقتصر على وصف شخصية الرئيس وذهب بعيداً في التوقعات المسرفة، التي تشبه الرئيس الجديد ببعض الزعماء العرب، ولكن ما هو جدير بالذكر وعدم الاغفال في هذا السياق أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وأحزاب سياسية عريقة، ففوز ترامب مهما كانت طبيعة شخصيته فخلفه مؤسسة حزبية عريقة لها برنامجها ورؤيتها وشخصيتها وخطوطها المرسومة سلفاً، مما يجعل تأثير الرئيس الشخصي قليلاً أمام هذا العمل المؤسسي المستقر، ويبدو أن كثيراً من الكتاب العرب يتأثرون ببيئتهم السياسية القائمة على الرجل الواحد، مما يجعلهم ينطلقون من هذه الزاوية التي شكلت رؤيتهم تجاه الآخرين.
الأكثر أهمية في هذا السياق أن كثيراً من الأنظمة العربية كانت تحاول جاهدة التكيف السياسي وفق التوقعات السائدة بفوز كلنتون، لأن كل التقارير مدفوعة الثمن أخبرتهم بمجيء كلنتون، وهناك مجموعة من الخطوات الجوهرية التي تم اتخاذها جاءت في سياق التمهيد لكسب رضا الزعيمة الديمقراطية القادمة، التي تعرف المنطقة جيداً، وتقف على كثير من التفاصيل، وتعد شاهدة على كثير من الحوادث والاتفاقات العلنية والمخفية، عندما كانت وزيرة للخارجية، وتحظى بعلاقات وثيقة مع كثير من الشخصيات السياسية على الصعيد العربي والعالمي، ولذلك فإن مجيء ترامب سوف يثير زوبعة تطيح بكثير من الترتيبات المؤسسية والصياغات السياسية العديدة، وسوف يحدث إرباكاً جديداً وبعثرة لكثير من الأوراق.
المطلوب على وجه الدقة أن تتوجه السلطات الحاكمة في كل بلاد العرب إلى تعزيز وجودهم من خلال التكيف مع مصالح شعوبها أولاً، وأن تتوجه بجدية نحو امتلاك الشرعية الوطنية التي تمنحها الشعوب بطريقة ديمقراطية سليمة، من خلال السير الحثيث عبر طريق الاصلاح الوطني الشامل، الذي يرتكز على إيجاد التشريعات العادلة التي تنتج تمثيلاً وطنياً حقيقياً يعبر عن طموحات الشعوب في إيجاد دولة حديثة وحقها في تقرير مصيرها واختيار مستقبلها، والسعي الحثيث نحو بناء حياة حزبية حقيقية جديدة تمثل التوجهات السياسية ، وفقاً للبرامج الوطنية الواضحة.
الدستور