ملاحظات على هامش قضية اللاجئين
راشد صالح العريمي
07-11-2016 12:49 PM
قبل عشرة أيام أصدرت محكمة في بلجيكا حكماً بتغريم الحكومة 4000 يورو عن كل يوم تؤخر فيه إصدار تأشيرة دخول لأسرة سورية من مدينة حلب من أجل تقديم طلب للجوء، بواقع ألف يورو يومياً عن كل فرد من أفراد الأسرة الأربعة.
تقدِّم هذه القصة وجهاً مشرقاً لقضاء ينتصر للقواعد الإنسانية المحضة ويضعها فوق كل الاعتبارات، لكن هذا ليس كل شيء في الحقيقة، فبقية التفاصيل تنتمي إلى الواقع المر الذي يعطي وزناً أكبر لكثير من الاعتبارات الأخرى. فقد توعَّد وزير الهجرة البلجيكي بأنه سيسلك كل السبل من أجل الطعن في هذا الحكم «الجنوني»، وأنه لن يسمح بفوضى اللجوء التي ستترتب على هذا الحكم.
في تفاصيل القصة كذلك أن الحكم أصدرته محكمة ابتدائية، بمعنى أن هناك درجات أخرى للتقاضي ستلغي هذا الحكم غالباً، وستجعله مجرد تسجيل موقف شخصي لا قوة له على التطبيق، من جانب قاضٍ أراد تقديم لفتة رمزية يعلم أنها لن تتجاوز الورق الذي كتبت عليه.
في التفاصيل أيضاً أن قانون اللجوء البلجيكي يشترط أن يكون طالب اللجوء وصل بالفعل إلى الأراضي البلجيكية ليتقدم بطلبه، ويعني ذلك أن اللاجئ يجب أن يخوض رحلة الأهوال عبر البحر على سفينة متهالكة، وأن يسلم نفسه لسماسرة الهجرة غير القانونية وعصاباتها، وأن يقترب من الموت مرات مع أطفاله على النحو الذي صدم العالم حين تسربت صورة واحدة للطفل إيلان كردي.
هذا الوجه لقضية اللجوء، أو مأساة اللجوء بالأحرى، ليس إلا واحداً من وجوهها الكئيبة وتداعياتها المؤلمة التي ستمتد طويلاً. ولست ممن يميلون إلى المزايدة على الغرب أو اتهامه في كل شاردة وواردة، لكن هناك الكثير من علامات الاستفهام عن مواقف الغرب من قضية اللاجئين، لا سيما في حال المهاجرين بسبب الاضطرابات العربية التي تتفاقم منذ خمس سنوات تقريباً. وتزيد الحاجة إلى المساءلة مع ما تتبرع به الدول الغربية من دروس تحت مظلة «حقوق الإنسان» تُلقيها على دول الخليج العربي التي بذلت كل ما في وسعها من أجل ضمان درجة من الاستقرار في محيطها، وتكبدت من مقدَّراتها الاقتصادية وجهدها السياسي ومن أرواح أبنائها الكثير، لترتق الثغرات والشقوق التي يتدفق منها العنف والإرهاب والفوضى والكراهية، في ظل مواقف غربية مثيرة للشكوك، ومكافآت أوروبية وأميركية لقوى ودول وجماعات تحمل إلى المنطقة وصفة الخراب والفشل.
من الحقائق المهمة أيضاً في قضية اللاجئين على المستوى العالمي أن دول أوروبا جميعها استقبلت نحو 500 ألف لاجئ وفقاً لما أعلنته الحكومة السورية الموقتة على موقعها الإلكتروني في نهاية العام 2015، ونقلته عنها صحيفة «الحياة» في عدد 26 كانون الثاني (يناير) 2016، وذلك من مجموع خمسة ملايين لاجئ سوري. والدول التي استقبلت اللاجئين بالفعل هي دول الجوار، ومعظمها دول نامية تعاني مشكلات كبيرة، إذ استقبل الأردن نحو 660 ألف لاجئ، واستقبل لبنان نحو مليون و100 ألف لاجئ. وكلا البلدين يتسم بقلة عدد سكانه، ولذا فإن هناك لاجئاً مقابل كل خمسة لبنانيين تقريباً، ولاجئاً مقابل كل عشرة أردنيين. وتستقبل تركيا نحو مليونين ونصف المليون لاجئ، فيما تستقبل مصر نحو 125 ألف لاجئ. ويعني ذلك أن الدول الأوروبية الأكثر ثراءً تلقي العبء على دول عربية وإقليمية أصغر وأقل من جهة الإمكانات، فيما تتصدر الواجهة عالمياً في وسائل الإعلام، وتبدو وكأنها الجهة الوحيدة التي توفر للاجئين فرصة النجاة.
لقد واجهت دول الخليج العربية اتهامات وغمزاً من جهات عدة في ما يخص قضية اللاجئين السوريين، لكن كل من ينظر إلى القضية بعيداً من الأهواء سيجد أن نحو مليوني سوري في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وبقية دول الخليج يجدون البيئة الآمنة للإقامة والعمل المجزي، ومنهم مئات الآلاف الذين استقبلتهم دول الخليج بعد العام 2011، وأن ملايين آخرين من السوريين يعتمدون على ما يرسله إخوانهم العاملون في دول الخليج من تحويلات مالية ساعدتهم طوال السنوات الماضية على مواجهة الظروف القاسية، ولا تزال.
ووفق تحليل لـ «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» كتبته لوري بلوتكين بوغارت، ونُشر باللغة العربية على موقع المعهد في 30 أيلول (سبتمبر) 2015، فإن «الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر هي من بين أكبر الجهات المانحة للمساعدات الإنسانية إلى السوريين حتى الآن». وعلى رغم أن التحليل المذكور لم يكن منصفاً بما يكفي، فإنه لم يستطع إهمال حقيقة دور المساعدات الخليجية التي لعبت دوراً أساسياً في تخفيف وطأة اللجوء ومشاكله.
وتمثلت الاستجابة الإماراتية في تشييد وإدارة مخيمي الأزرق والزعتري للاجئين السوريين في المملكة الأردنية الهاشمية، ومتابعة حاجاتهم من رعاية وتطبيب وتعليم، إضافة إلى الدعم المادي واللوجستي لمخيمات اللاجئين السوريين في لبنان، ولاقت هذه الجهود صدى طيباً في نفوس اللاجئين والمسؤولين المحليين والأمميين، ما حدا بالمسؤولين في اليونان إلى الطلب من الإمارات تقديم خبرتها في بناء وتنظيم مخيمات اللاجئين. وقام «الهلال الأحمر الإماراتي» فعلاً بتجهيز مخيم اللاجئين في مدينة لاريسا، ويعمل على تجهيز مخيم آخر في أثينا.
يتبقى أن اللاجئين السوريين في البلدان العربية ودول الجوار هم الأكثر فقراً والأقل تعليماً، وبعد عام أو عامين أو ثلاثة أعوام لا بد من أنهم عائدون إلى بلدانهم، وأن من نجحوا في بلوغ الأراضي الأوروبية هم من القادرين غالباً على تمويل هذا الوصول وتكبد آلاف الدولارات لتلبية متطلبات السفر، ومعظمهم من المهنيين المهرة، أطباءً ومهندسين وأساتذة جامعات ومحاسبين وقانونيين واختصاصيين في تكنولوجيا المعلومات، أو ممن كونوا ثروات صغيرة أو متوسطة سينقلونها معهم إلى أوروبا. وهؤلاء تلقوا تعليماً جيداً في بلادهم أو أنفقوا ليحصلوا على تعليم في بلدان غربية، بمعنى أنهم ثروة بشرية مؤهلة وجاهزة لإثراء الاقتصاد الغربي وضخ مزيد من الحيوية فيه، لا سيما مع النقص الكبير في عدد المواليد وزيادة عدد كبار السن الذين يمثلون عبئاً اقتصادياً على بلدانهم.
العائدون إلى سورية من مخيمات اللجوء في الدول المجاورة لن تنتهي مشكلاتهم مع العودة، وسيحتاج حلها إلى أكثر من جيل لتجاوز أزمات الحرمان من التعليم وتنامي الأمية وفقدان الموارد الاقتصادية وتدني مستوى المهارات، هذا إذا افترضنا أن الأمور في سورية ستكون في وضع يسمح لها بالتقدم. وبذلك تكون أوروبا نالت ربحاً صافياً من مأساة اللاجئين، وأتيحت لدولها فرصة انتقاء من تمنحه حقوق اللجوء والعمل على أرضها، أو الجنسية في ما بعد، وتركت خسارات صافية لدول المنطقة التي ستعاني تبعات اقتصادية وسياسية وأمنية لسنوات اللجوء، وتدفع فاتورة مرهقة لمواجهة التهديدات التي ستُفرض عليها.
أخيراً، فإن تنامي مشاعر كراهية الأجانب في أوروبا وعودة النزعات العنصرية لم تنتظر كثيراً لتُفصح عن نفسها بشراسة، ولن يكون مستغرباً أن يتسبب ذلك في إيجاد بيئة خصبة للتطرف واجتذاب بعض اللاجئين السابقين إلى جماعات التشدد والإرهاب، بما لها من تأثير عابر للحدود وللقارات، وبما سيؤدي أيضاً إلى فاتورة معنوية يتحملها العالم العربي، وفي القلب منه دول الخليج.
"الحياة"