منذ نهاية القرن العشرين وحواليها، والناس، كل الناس، يعيشون في حالة تكاد لا تختلف عن ذلك الهذيان والخوف والاضطراب والتيه الذي يصيب الخلق وهم ينتظرون هوائل يوم الحساب، إذ تراهم يتراكضون هنا وهناك، يتصايحون ويتدافعون، غابت العقول، ولم يعد أحد قادراً على أن يفهم ما يجري، أو ما يجب أن يقول، أو ما عليه أن يفعل، خاصة وأن مطلع كل نجم يحمل شيئاً أسود لا يمكن تفسيرُ ماهيته ولا يمكن فهمه. وكي تصبح المقاربة أكثر قبولاً، فإن الانتقال الى ما يجري الآن على الساحة العربية، ربما يشرح ما ذهب اليه الفكر الجاري المتعاطي معه هذه الأيام.
ولكي ننحاز الى الاستخدام الامثل لمنطق التناول نقول بكل بساطة: إن هناك تحدياً لا يمكن تكسير أجنحته، يدلل على أن لا أحد على وجه البسيطة يمكنه أن يدّعي، أو يتوهم، أو يتخيل، أو حتى يحلم، بأن لديه تبريراً أو تفسيراً لما هو حادث.
طلعت الشمسُ وغابت وراء الحجاب ألوف المرات، ولم نشهد يوماً واحداً يدّعي فيه فردٌ مِنْ خلق الله أنه يملك مفتاح القول ومِغلاقهِ، حول ما هي داعش ومن هم أعداؤها؟ ومن هي جبهة النصرة وجيش الشام وجيش الفتح وغيرها من المسميات التي تملأ السهل والوعر في جنبات الأرض العربية؟ ولا يملك أحد من عبيد الله قولاً فصلاً حول تحديد مَنْ مع مَنْ؟ ومن هم، بالتالي، الأصدقاء، ومن هم المتخاصمون؟.
منذ نهاية القرن العشرين، ونحن نقلّب صفحات أمهات الكتب، ومراجع التاريخ، ونتتبع التحليلات والأخبار والندوات والمداخلات، دون أن نعثر على مصطلح واحد يمكن أن نُسمي به المشهد الذي نرقصُ فيه على مسرح اللعبة "الشرسة" و "المرعبة" و"الخليعة" و"الداعرة" القائمة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
وهنا بدأنا نسأل هل ما هو قائم أمرٌ حقيقي أم أننا نتخيل بعقولنا المريضة؟ أصحيح أن العرب قد عادوا إلى قيس ويمن، وإلى مناذرة وغساسنة، يقتلون بعضهم بعضاً خدمة لعدوهم الذي يُفترض أن يكون مشتركاً؟ أصحيح أننا استدعينا الخوارج ليساعدوننا في ذبح أحفاد الشرفاء من أمة لا إله إلا الله؟، أصحيحٌ أننا بعنا صهوات جيادنا للغرباء ليجعلوا منها مرابض يرموننا من فوقها بنبالِهم؟ أصحيحٌ أننا مكنّاهم من دخول غرف نومنا ليستبيحوا أعراضنا، ونحن نملأ السماء بالأهازيج الغاضبة خلف أبواب هذه الغرف؟.
لا يستطيع أحد أن يُنكر أننا نعيشُ في أدنى مستويات الزمن الرديء، ولا شك أننا تلهينا بملء "كروشنا" بالعلف الذي حتى لم نعد نزرعه، بل رحنا نشتريه وندفعُ ثمنه جراراً مملوءة بكرامتنا وشرفنا.
من منّا لا ينكفئ على وجهه كل ليلة ويبرك مثلما يبرك البعير، في انتظار اليوم التالي ليتحول إلى "ثور" يلتف النير حول عنقه ويدور ويدور منتظراً مغيب الشمس حتى يتمرغ أنفه بالتراب؟.
هناك تكيّة يجتمع فيها العرب بين الفينة والفنية، يتبادلون فيها أطراف الحديث حتى تتقرح أشداقهم، وفي آخر النهار ينفض السامر بعد أن يُصدِر "المنتدون" صرخة مدوّية تلعن الكافرين وعبدة الاصنام، دون أن يتسببوا حتى في "جرح خاطر" هؤلاء الكفار والوثنيين. وأعجب من العجب أن "العربان" يملكون من المنتديات ما يعجز "العادّ" عن أن يحصيها، ولها مسميات لامعة توحي بالعزّة والشهامة والدفاع عن الكرامة، إلا أنها، في الواقع، لا تتعدى أن تكون نوعاً من "البُشار".
دول عربيّة تُذبح من الوريد إلى الوريد، وشعوبٌ تُشرّد بين الشعاب وفي الوديان، وقد أكل الذئب رجالها بعد أن التهم أغنامها. دولٌ عربية تكاد تفقد هويتها، وقد ملأها الدم والجوع والخوف والطرد والتقطيع والتهجير والدمار، ولم نعد نسمع إلا "أنجُ سعد فقد هلك سُعيد".
والأعجب من ذلك كله، أن الناس قد بدأت تستمرأ الذل والهوان والعبودية والاستعباد، بعد أن لم تعد هناك قدرة لديها على المقاومة والكفاح والثأر، فاستسلمت لكل شيء بما في ذلك تنازلها عن حقوقها ومكتسباتها. هل من المعقول أن تستمر حربٌ، مثلما يجري في اليمن وليبيا والعراق، سنين طويلة اقتربت من الست في سوريا، أطرافها منا ومن أبنائنا، وأطرافها الأخرى رجالٌ لحاهم حمراء، ووجوههم حمراء، وأشداقهم حمراء، وعيونهم حمراء، هم أبداً ليسوا من أهلنا، فماذا يفعل هؤلاء عندنا، يقتلون الطفل والمرأة والشيخ، ويدمّرون المساكن والمساجد، ويحرقون الأكباد قبل أن يحرقوا المزارع والمهاجع؟ من سمح لهؤلاء أن يدخلوا بلادنا، ويدنسوا مقدساتنا وينجسوا مواطن سجودنا؟ من أعطاهم الإذن بأن يتولوا (كما يقولون) تحرير "بعضنا" من "بعضنا"؟ من هم؟ وما هي أصولهم؟ ومن ذا الذي يقفُ من خلفهم، بعد أن استباح القانون الدولي والإنساني والبشري والديني والحضاري؟ .
لم يعد شيءٌ خاضعاً للمنطق أو العقل أو الفهم. ولم يعد أحد قادراً على التفسير أو التحليل أو الإقناع أو الاقتناع. لم تعد هناك حدودٌ يجب احترامها والالتزام بها. لم يعد هناك ما يسمى "بشرف" الإنسان و"كرامة" الإنسان" و"حقوق" الإنسان. لقد أصبح مفهوم "الحضارة" شيئاً من القذارة الذي يُباع في سوق النخّاسين، وأصبح مفهوم الإنسانية سلة من المهملات تُرمى تحت أقدام قطعان الحيوانات.
زمنٌ محشوٌ بالأسئلة القادمة من جهنم. أسئلة تدور على ألسنة الناس الذين لم يعودوا يُحْسبون من البشر. بل وحتى الدون من المخلوقات بدأت بتقزز من هؤلاء لأنهم إما كافرون بآدمية الإنسان، أو أنهم ضاربون عرض الحائط بالقيم والمُثل والأخلاق والمبادئ.
زمن ربما لا تقبل جهنم أن تعيش فيه، خاصة وأن معظم الخارجين عن المنطق والعقل قد حاولوا أن يرتدوا مسوح الرهبان. وستجد العجب عندما تسمع التكبير يتعالى مع كل قذيفة يطلقونها فتشق صدر طفلٍ أو تمزق قلب أم أو تفتت كبد أب. ينادون باسم الله ويصيحون بـ"ألله أكبر"، وهم يدمرون كل شيء. أما الأكثر غرابة، والأكثر دهشة هو عندما تجد أحدهم يستعد لأداء ركعتين وقد توضأ لهما بالدم. وتسمع آخر يبكي وقد انفطر قلبه حزناً على أن عدداً من البشر ما يزالون أحياء بعد أن أخطأهم رصاص بندقيته، خاصة وأنه قد أرفق كل رصاصة بآيات من القرآن الكريم.
زمن رديءٌ رديء، كل شيء فيه مملوء بالسم والصديد والقرف، وكل وعاءٍ فيه يتدفق بعذاب جهنم، وإلا كيف لنا أن نفصل بين "الإرهاب المعتدل" و "الإرهاب غير المعتدل"؟. وكيف لنا أن نفصل بين قرار الدولة الكبرى الأولى في العالم في حماية مصالحها ومصالح حلفائها، وبين ما تمارسه على أرض الواقع ومن ذلك شيطنة العقل وعقلنة الشيطان.
قولٌ قادمٌ من جهنّم.