ثورات وانتفاضات الأردن عبر العصور .. (1)
د. محمد المناصير
05-11-2016 11:34 AM
عندما تعرضت دولة الآشوريين للضعف ، تحررت شرقي الأردن وفلسطين وسورية من السيطرة الآشورية ، وفي عام 745 ق م ؛ وصل إلى الحكم آشور تغلات بلاسر الثالث الذي سارع لإعادة احتلال شرقي المتوسط ، فغزا المنطقة واسر أهل جلعاد من بلاد شرقي الأردن وأرسلهم إلى نينوى ، وقد أصاب أهالي شرق المتوسط الخوف من بطش الجيوش الآشورية ، إلا أن أهالي جنوبي شرقي الأردن من بلاد أدوم وهم من قوم ثمود أعلنوا الثورة على الدولة الأشورية واخذوا يهاجمون الجيوش الآشورية ، فأرسل الآشوريون ابتداء من عام 715 ق م حملات لإخضاع الثموديين ، في غربي تيماء ، والعبابيد سكان الجبال الواقعة جنوب شرقي العقبة ، وسكان منطقة حسمى قرب وادي رم ، أما منطقة الجوف ؛ فقد خضعت للآشوريين ودفعت ملكتها العربية" شمس " أو " شمسي" الجزية للآشوريين.
وفي عام 705 ق م حكم الملك الآشوري سنحاريب ، إلا أن منافسه على العرش ميروداش شكل حلفا ضم البلاد الخاضعة لآشور في شرقي المتوسط ، فأعلنت دويلات وشعوب المنطقة الثورة على الاحتلال الأشوري ؛ وكان منهم ملك صور وملك أدوم وملك بيت عمون وملك مؤاب ورؤساء البدو ومنهم الملكة " يأتي " سيدة عربان الجوف ، إلا أن سنحريب تمكن من إخماد الثورة وافشل هذا الحلف سنة 702 ق م .
وبعد موت الملك الآشوري أسرحدون عام 666 ق م ، ثار العرب مدافعين عن حلفائهم البابليين ، فغزا الآشوريون البلاد واخضعوا البلاد لسلطانهم تماما عام 648 ق م ، وبين عامي 640 – 638 ق م جرد آشور بانيبال جيوشه نحو البادية للمرة التاسعة فالتقى بجموع البدو من شرقي المتوسط وهزمهم قرب تدمر ، قد وكان لكثرة الحروب أثرا في إضعاف آشور ، مما جعلها تستسلم لبابل عام 612 ق م ، فخرج آخر ملوكها إلى حوران ، وتحالف مع المصريين لإعادة ملكه إلا انه لم يتمكن ، وانتهى بذلك عهد آشور.
وقد شهدت عهود الإسلام العديد من الثورات والانتفاضات ، فقد شهد العهد الأموي ثورة ثابت الجذامي المطبوع على التمرد الذي حرض أجناد الشام الأردن وفلسطين ودمشق وحمص للثورة على الخليفة مروان بن محمد ستة 127هـ ، وثار معه السمط بن ثابت الكندي وغالب بن ربعي الطائي وعبد الله بن شجرة الكندي والاصبغ بن ذؤابة الكلبي، كما ثار جند الأردن وجند فلسطين بقيادة ثابت بن نعيم الجذامي الذي حاصر حامية طبرية عاصمة الأردن وفيها الجيش الأموي بقيادة الوليد بن معاوية.
وقد شهد عهد الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد اشتداد الثورة العباسية التي انطلقت من الأردن ، حيث كانت تدار من البلقاء في الأردن حيث يقيم العباسيون في "الحميمة " بجنوبي الأردن بين رأس النقب والقويرة ، وهي أول حركة سرية في تاريخ الإسلام ، فقد نشط محمد بن على بن عبد الله بن العباس في الحميمة ، فأرسل الأتباع من الحميمة إلى الكوفة وخراسان ، وخلف محمد بن علي في دعوته ابنه إبراهيم بن محمد ، إلا أن مروان بن محمد اطلع على رسائل بين إبراهيم وأعوانه في خراسان ، فأرسل إليه جندا من ولاية البلقاء للقبض عليه ، فقبض عليه في مسجد الحميمة بجنوبي الأردن عند صلاة الصبح ، فطلب إبراهيم من أهله أن يسيروا إلى الكوفة لإعلان الثورة في جانبها العلني مع أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد الذي أصبح أول خليفة عباسي .
وقد ولد بالحميمة في الأردن من الخلفاء العباسيين ، أبو العباس عبد الله بن محمد ( السفاح ) الذي ولد بالحميمة سنة 104هـ وعاش فيها 28 عاما ، وأبو جعفر عبد الله بن محمد (المنصور) الذي ولد بالحميمة سنة 101هـ وعاش فيها 31 عاما ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن علي الملقب بالمهدي الذي ولد بالحميمة سنة 126هـ وعاش في الحميمة ست سنوات ، وكان معهم بالحميمة داوود بن علي ، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس ، وجماعة من مواليهم .
وكان في الحميمة من النساء العباسيات : ريطة أم السفاح ، وكانت قبل زواجه من محمد بن علي عند عبد الله بن عبد الملك بن مروان ، وزينب بنت سليمان بن علي زوجة إبراهيم بن محمد الإمام ، واليها ينسب الزينبيون من ولد العباس ، وفاطمة بنت علي عمة السفاح ، والعالية بنت عبد الله بن العباس.
على الرغم سيطرة العباسيين على الأردن دون مقاومة إلا أن العلاقات العباسية مع الأردن أخذت طابع العداء؛ فبعد دخول العباسيين لدمشق لم يستسلم أهل البلقاء فثاروا في البثنية وحوران ، وعلى ارض البلقاء سقط من الأمويين سليمان بن يزيد بن عبد الملك وهو يقاوم العباسيين .
وشارك الأردنيون في ثورة أبو محمد السفياني التي يقودها أبي الورد في بداية العهد العباسي 132 هـ في جند قنسرين .
كما ثارت القيسية بقيادة حبيب بن مرة ، وتبعهم القيسية في البثنية وحوران، وتمكن عبد الله بن علي من إخمادها ، وكانت أسباب هذه الثورة أن حبيب بن مرة كان من فرسان الأمويين الموالين لهم مبدأ وعقيدة لذلك لم يستسلم، وأخذ يقاوم العباسيين دفاعا عن مصالحه وخوفا على نفسه وقوته، وفيها يذكر الطبري "وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه"
وشهدت الأردن ثورة أبو الهيذام التي كانت شرارة لصراعات العصبية القبلية التي نشبت بين القبائل القيسية واليمانية على إثر ميل ولاة العباسيين إلى القبائل اليمانية في إدارة الدولة، وقيادة الشرطة، وغضبهم على القيسية، وضربهم، وسجنهم، وحلق لحاهم، وتحريضهم اليمانية ضد القيسية، مما أدى إلى استيقاظ روح العصبية القبلية، وإثارة الحقد في نفوس القيسية، فقد قام أبو الهيذام سنة 176 هـ / 793 م بإشعال فتيل فتنه حيث بدأ أمرها بخلاف فردي، أدى إلى نزاع عام شاركت فيه القبائل القيسية واليمانية من الأردن، ودمشق، وتمثل بسلسلة من الغارات بين الطرفين قتل فيها أعداد كبيرة .
وتجددت الفتنة والعصبية القبلية سنة 180هـ/ 796م، بين القيسية واليمانية في الأردن، ودمشق، وتفاقم أمرها حتى أن الخليفة هارون الرشيد فكر بالخروج بنفسه للقضاء عليها، إلا أن قائده جعفر بن يحيى تصدى لها ومعه أعداد كبيرة من العساكر، فقضى على الفتنة ، وجرد الأهالي من السلاح، فلم يدع فيها رمحا ولا فرسا .
وهاجت الفتنة والعصبية مرة ثالثة سنة 187هـ /803م ، وتجددت المعارك بين القيسية واليمانية، وقتل فيها أعداد كبيرة، فأرسل الخليفة هارون الرشيد قائده محمد بن منصور لإخماد الفتنة واحتوائها .
وخرج في آيلة أي (العقبة ) في البلقاء أبو النداء سنة 190 هـ في عهد الخليفة هارون الرشيد وأغار الثائرون على قرى الشام ، ورفضوا أداء الخراج للعباسيين ، فأرسل إليهم هارون قائده يحيى بن معاذ .
وأصبحت الأردن سنة191هـ/806م مسرحا لقتال العصابات وقطاع الطرق الذين أغاروا على بعض قرى الشام، وعملوا فيها النهب والقتل، فبعث إليهم الخليفة هارون الرشيد عساكره، والتقى الطرفان في رحى معركة شديدة في أيلة، منيت فيها العصابات بخسارة فادحة .
واندلعت ثورة سنة195هـ/811م ثورة قادها أبو العميطر مستغلا فتنة الخليفة الأمين والخليفة المأمون على الخلافة، وأعلن نفسه خليفة للمسلمين مستعينا بالقبائل اليمانية مدعيا أنه السفياني المنتظر الذي سيعيد الخلافة إلى بني أميه، ودانت له الأردن، ودمشق، وفلسطين، واستطاع ابن بيهس القضاء على هذه الثورة سنة 197هـ/ 813 م .
وشاركت جموع الأردنيين وأهل البلقاء في حركة سعيد بن خالد العثماني الفديني الذي تحرك بالفدين (المفرق) في الأردن عام 198هـ في عهد الخليفة العباسي المأمون ، وتمكن سعيد من السيطرة على حوران والبلقاء والأغوار، ثم امتدت ثورته بين كر وفر إلى عمان وزيزياء وماسوح قرب حسبان وبلغت الجموع معه 20 ألفا .
وشارك أهل الأردن والبلقاء في حركة المبرقع اليماني وهو أبو حرب تميم اليماني في عهد الخليفة العباسي المعتصم حيث ثار أهل الأردن عام 226هـ / 227 هـ 843 م عمل فيها على تحريض الفلاحين بالتمرد على الخلافة العباسية، وأخذ يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستجاب له أعداد كبيرة من الفلاحين، واستطاع رجاء بن أيوب القضاء على ثورته .
وجاءت هذه الثورة نتيجة سوء سلوك أحد الجنود العباسيين الذي أراد دخول دار تميم حين غيابه وزوجته أو أخته فيها، فمنعته من ذلك فضربها بسوطه فاتقته بذراعها فأثر فيه، فلما عاد أبو حرب شكت إليه الجندي، فغضب أبو حرب وقتل الجندي، واعتصم في جبال الأردن يختفي في الليل ويظهر في النهار واضعا على وجهه برقعاً،وأرسل إليه المعتصم جيشا بقيادة رجاء بن أيوب، الذي انتظر إلى موسم الحراثة حيث ينفض الفلاحون من حول المبرقع منصرفين إلى العمل بالأرض.
وبعد وفاة المعتصم خلفه الواثق، فثار أهل دمشق من القيسية والتفوا حول ابن بيهس، فأمر الخليفة الواثق قائده رجاء بن أيوب، أن يترك المبرقع ويتوجه إلى دمشق ومقاتلة ابن بيهس، وحاول رجاء مفاوضة الثائرين الذين حاصروا دمشق، إلا أن المفاوضات لم تفلح بينهم، ودارت معركة بينهم انتهت بهزيمة ابن بيهس، ومن ثم عاد رجاء لمقاتلة المبرقع، حين حل الموسم الزراعي فلم يبق مع المبرقع إلا عدد قليل من الجيش لم يكن فيهم فارسا غيره، فأطبق عليه الجند وأخذوه أسيرا....
وقد ثار رجل من قبيلة لخم بثورة في الأردن سنة 249هـ / 863 م في فترة حكم الخليفة المستعين فطالبه صاحب جند الأردن، إلا انه هرب وأقام مكانه رجلا يعرف بالقطامي ، وقد تزعم القطامي الحركة حتى تمكن القائد العباسي مزاحم بن خاقان التركي من هزيمته ونفى جماعة من أصحاب القطامي من الأردن فهرب، واستمر أتباعه بحركته، وجمعوا الخراج لأنفسهم، إلى أن استطاع مزاحم التركي هزيمتهم .
وكانت منطقة الأردن مسرحا للقتال في فترة حكم الخليفة المعتز بالله بعدما رفض واليه عيسى بن الشيخ مبايعته بالخلافة، فأرسل إليه الخليفة المعتز بالله قائده نوشري التركي ، ودارت بينهما حروب انهزم فيها ابن الشيخ وفر إلى مصر ،ثم استطاع العودة إلى ولايته في فترة حكم الخليفة المعتمد ، وعاد إلى التمرد،ورفض إرسال المال إلى بغداد بحجة أنه أنفقه على الجيش، فأرسل إليه الخليفة المعتمد قائده أماجور التركي ، واشتبك الطرفان في رحى معركة شديدة، انهزم فيها ابن الشيخ سنة 256هـ /870م...
اهتم الأيوبيون بالأردن لتكون حلقة الوصل بين الشام ومصر، وللضغط على الصليبيين، وصارت الكرك في زمن بني أيوب أهم من القدس، إلى درجة أن ملك مصر الأيوبي عرض تسليم القدس للفرنجة مرة ثالثة مقابل بقاء الكرك والشوبك في يده، كما سبق وذكرنا بالتفاصيل في الباب السابق، وعند تحرير الكرك من الفرنجة على يد الأردنيين وقادة صلاح الدين، صارت الكرك عند الأيوبيين لها أهمية كبرى ، وصار من يسيطر على حصنها يفوق في قوته قوة سلطان مصر والشام، وصارت الأردن نقطة التوازن والقوة، إذا مالت شمالاً انتصرت الشام، وإن مالت جنوباً انتصرت مصر، وإذا مالت غربا تحررت القدس وفلسطين , وإن بقيت حيادية اضطر ملوك دمشق والقاهرة للصلح بعد المذابح والمعارك وذلك بسبب تساوي التوازن بين قوتيهما.
وعندما تم اختيار الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير سلطانا ، وهو من المماليك البرجية ( الشركس .( ولقبوه بالملك المظفر ، وخطب له في مصر ، في سنة 708هـ 1309م ، أعلن الناصر محمد الثورة من الكرك وعاد للسلطنة للمرة الثالثة وحاول نقل عاصمة دولة المماليك إلى الكرك . فبعد أن استقر الناصر محمد بالكرك أمر المماليك البحرية بمغادرة القلعة والتفرق بالبلاد ، فسكن قسم منهم في مؤتة . وانشأ دارا للعدل في الكرك والتي كان يحضرها بنفسه.
ويعتبر جيش مملكة الكرك في العصر المملوكي أول قوة استخدمت المدافع الحديثة في قصف القوى التي حاصرتها زمن السلطان الناصر أحمد بن قلادون الذي صمد في الحصار على الكرك الذي دام سنتين كاملتين، انتصر بعدها بعد استخدامه للمدافع.
كان ذلك الحصار زمن الناصر أحمد بن قلاوون على أثر اتخاذه للكرك حاضرة لدولة المماليك بدلاً من القاهرة، مما أغضب المماليك فأرسلوا قوات لحصاره لإجباره على العودة إلى إدارة الدولة من مصر وليس من الكرك ، أو التنازل عن العرش، وقد فوجئ المهاجمون بالناصر يستخدم المدافع ويقصف بها جموعهم فابتعدوا عن الأسوار، وصارت أبعد من مدى منجنيقاتهم، ووجدوه قد تفوق عليهم، بل كان يرميهم بالسهام المذهبة المفضضة (المرصعة بالفضة والذهب)، وقد وجد المهاجمون أبياتاً من الشعر على نصل أحد الأسهم:
ومن جودنا نرمي العداة بأسْهُمٍ / من الذهب الإبريز صيغت نصولها
يداوي بها المجروح منها جراحه / ويشري بها الأكفان منها قتيلها
ففشلت حملة الحصار هذه التي كانت قوات الحصار فيها خليطاً من عساكر مصر والشام. وانتصرت الأردن على مصر والشام , وانتصر الناصر احمد بن قلاوون على بقية المماليك وأول من استخدم سلاح المدفعية عند العرب ...
وأصبحت الكرك ملجأ آمنا ذلك أن لجوء الأمير أو السلطان إلى الكرك كان ينقذه من القتل في القاهرة، فإذا سلم والتجأ للقلعة الأردنية تعذّر إعلان سلطان آخر مكانه، لأنه صاحب الشرعية، وقد أدرك المماليك هذه الحقيقة، فنجد من كان منهم يريد الأمن والسلامة , كان يهرب إلى الكرك , وكان أهل الأردن يرون في ذلك شيئاً من الفخر والتكريم لهم ولبلادهم، لذلك شكلوا جيشاً كان يقوم بمهمتين هما: حماية المستجيرين من السلاطين والأمراء من جهة , وحماية البلاد من أي احتلال مصري أو شامي أو صليبي من جهة أخرى ، ولكنها بقيت نقطة انطلاق باتجاه فلسطين ومصر وسوريا، وبقيت مركزاً لخزانة السلاح والمال والميرة والكسوة والخِلع (مفردها خِلعة)، وبقيت عصباً حيوياً للقوافل التجارية ومواكب الحجيج: وفيها إنتاج وفير، ودخل كبير.
وبقيت الأردن في العهد المملوكي قاعدة للصراع السياسي والثورات، حيث انطلقت منها ثورة أولاد الظاهر بيبرس، والناصر محمد بن قلاوون، وأحمد بن قلاوون الذي قاد ثورته ضد المماليك في القاهرة، ونجح فيها، كما ثار فيها برقوق واستعاد سلطته بعد أن لجأ إليها للنجاة بروحه، كما أن القوات الأردنية حررت الساحل الفلسطيني من الصليبيين تحريرا نهائيا .
كما بقيت الكرك بخاصة والأردن بعامة ملاذاً آمناً للأمراء والسلاطين، مثلما حدث للسلطان الناصر محمد بن قلاوون حيث تم عزله عن سلطنة مصر، ونفيه إلى الكرك، ومن هناك قاد ثورته بمؤازرة الأردنيين بعامة والكركيين بخاصة، فاستعاد عرشه بالقاهرة بأهل الأردن وجيش الأردن . وقد اتخذها مقراً له ولبنيه من بعده، حيث الأمن والأمان، وبذلك سلموا من القتل.
كانت الأردن مصدر الميرة لمصر وسوريا في سني القحط، وقد جهز السلطان الظاهر بيبرس خمسمائة غرارة من الكرك يفرقها في أهل الكرك من الفقراء والمساكين، وذلك عام 667هـ/ 1268م. ومثال آخر أن القحط أصاب مصر والشام عام 695هـ/ 1295م، فحدثت مجاعات وغلاء شديد، وقد تم حمل عشرين ألف غرارة من الحبوب من الكرك والشوبك والساحل أقول حملها إلى مناطق الجوع في مصر والشام.
كما حاول الملك المغيث ( انطلاقا من الأردن ) أخذ الشام والتآمر على أبناء عمه في دمشق ففشل، كما راسل التتار للتآمر معهم ضد المماليك ومصر والشام مقابل أن يكون سلطاناً على هذه الديار، وقام قطز باعتقال ولده (ولد المغيث ملك الكرك / الأردن آنذاك ) في الشام عندما كان هناك (ابن المغيث الأيوبي) يحوك المؤامرات ضد السلطان قطز في دمشق فقبض عليه ونقله إلى مصر وحبسه، ولم يخرج من الحبس إلا بعد عشرين سنة، بأمر من السلطان بيبرس كخطوة خداعية للملك المغيث ليستدرجه إلى مصر وينتقم منه لما قيل أنه كان اعتدى على زوجة بيبرس والله أعلم.
وعندما أراد الأيوبيون استرجاع عرش مصر من المماليك أوكلوا مهمة التآمر هذه للملك المغيث بالكرك الذي سارع بتجريد ثلاث حملات عسكرية أردنية إلى مصر، قبل أن تصله نجدات من الشام، ولكن هذه الحملات التآمرية لم تلق إلا الهزائم المتتالية .
إلا أن المغيث تآمر مرة أخرى على ابن عمه ملك دمشق يريد عرشه مما حدا بالملك الناصر يوسف ملك الشام أن يتحرك باتجاه الأردن لتأديب الملك المغيث، فخيم في زيزياء، والتقى بقبائل جذام الذين نصحوا ألا تكون الأردن ساحة للصراع بين أبناء البيت الواحد , وجرت المراسلات، ثم الصلح بينهما، ومن صفقة التآمر هذه أن المماليك الذين استجاروا بالمغيث من نار الناصر يوسف ( ملك الشام ) تم تسليمهم للناصر يوسف فأخذهم معه إلى دمشق ثم سجنهم في قلعة حلب مما أوغر صدور المماليك في مصر أيضاً غضبا لعرقهم من المماليك المسجونين .
وقد ازداد الاستقرار والازدهار زمن المماليك، وأكثر ما كان زمن الظاهر بيبرس الذي عرف البلاد وهو يخدم في بلاط الملك الأيوبي المغيث . وكان (بيبرس) قائد القوات الأردنية في حرب عين جالوت ثم صار قائد القوات العربية في تلك المعركة، وعندما آلت الأمور إلى الظاهر بيبرس كان أول اهتمام لبيبرس خارج القاهرة بعد أن استقرت له الأمور أن ذهب إلى الأردن وتحرك بيبرس لاحتواء الموقف في الأردن وكان تحركه على ثلاثة محاور :
الأول: إرسال مندوبيه إلى قلعة الكرك والالتقاء بحاميتها وغالبيتهم من الجيش الأردني واللقاء بعربان الكرك، يحذرهم عواقب العصيان، ويتحدث إليهم بلغة هي مزيج من الحلم والحزم، واللين والشدة والترغيب والترهيب، وحمل المندوبون الأموال والكسوة والخلع والنفقات لتوزيعها على ذوي الشأن في العشائر الأردنية , وذلك لاستمالة القلوب الحاقدة، وتطبيب النفوس الغاضبة ووقف وتطويق أية نشاطات معادية لبيبرس وسلطاته .
والثاني: أنه أطلق سراح جنود الملك المغيث الذين جاءوا معه إلى مصر قبل وفاته، وجلهم من الأردنيين وخلع عليهم وأعطاهم المال وطيب خواطرهم، وسمح لهم بالعودة إلى ديارهم وأهليهم بالأردن محملين بالأموال والهدايا، وصرف لهم الرواتب السابقة كلها رغم أنهم لن يكونوا على رأس عملهم لفترة طويلة ـ معتبرا إياها إجازة براتب.
أما الثالث : فكان تحركه شخصيا إلى الديار الأردنية، ترافقه قوة عسكرية قوامها: من المماليك والمصريين والأردنيين الذين رغبوا الالتحاق به وكان حريصا أن يكونوا معه , وذهب إلى القدس وزار الأماكن الإسلامية المقدسة وأمر بإعمارها وترتيبها، وإنفاق الأموال التي تحتاج إليها، وكان ذلك لتحسين صورته لدى أهل الأردن وفلسطين أنه مهتم بالقدس التي حررها الجيش الأردني على يد الملك الأيوبي الناصر داود كما سبق وذكرنا.
وبعد ذلك ذهب إلى الأغوار الأردنية والتقى عشائر الشمال بناء على طلب مسبق منه عند مقام أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه , وقد وفدت شيوخ ووجهاء عشائر شمال الأردن الذين اشتركوا في معركتي حطين وعين جالوت واستقروا مرابطين هنا للدفاع عن جبهة الأردن ضمن ما يمكن أن نسميه جيشا مقاتلا ولكن بدون رواتب , وهم منظمون على أساس عشائري يقوم زعماء العشائر عندهم بوظيفة القائد العسكري , ولا داعي لتكرار أسماء هذه العشائر الكريمة وسوف نتطرق إليها بالتفصيل فيما بعد أيضا أن شاء الله .
وقد ظلت الثورات مستمرة ومتقطعة، ابان العهد العثماني منها مثلاً عندما ثارت العشائر الأردنية فقتلت نائباً معيناً من خارجها عام 1453م. أو ما وثق في عام 1462 عندما تم بعث جيش جرار من مصر المملوكية لقمع ثورة أردنية اتخذت من آيلة وقلعتها معقلاً لها وبقيادة زعيم العشائر الأردنية وقتها مبارك العقبي (بني عقبة أجداد العديد من العشائر الأردنية اليوم). وحتى بعد قمع ثورة ال1462 ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها وعند استهتار السلطان المستمر خرجت بعض العشائر بقيادة بني لام (أجداد عشائر المفارجة ومن ثم السردية ومن ثم الفواز اليوم) فصادروا قافلة حكومية متجهة لمصر مكونة من ثلاثة عشر ألف من الابل بعام 1494م وذلك كوسيلة أخيرة للاحتجاج وتحقيق المطالب المشروعة بالاستقلال والحكم المحلي.