تعود بِنَا الذاكرة من جديد لتجدد وجع الغياب ،،، غياب ليس مثله غياب،، إنه غياب الرجال وفقدهم،،، ووجع يدمي القلب لرحيلهم،،، ذلك هو حالنا بفقدان رجل يذكره الرجال ،،، ويعرف قدره الرجال.
لست مبالغاً بمدحه ،، ولست مبالغاً بالبكاء لفقده ،،، ففقيدنا - يا سادة - كان يُؤْمِن بموجبات انسانيته ،، وكان يُؤْمِن برفعة أمته ،،، وكان يروح ويغدو لتعلو في العلياء راية موطنه ،،، وكان يبذل الجهد والنفس والنفيس ليعلي لواء دعوته ،،، ذاك هو فقيدنا ،، وأكرم به نجماً في مواطن الرجال ،، وأرفع به رأساً في ساحات النزال،،، فقد كان يُؤْمِن - رحمه الله - أن ما قدمه هو جزء من الواجب المفروض عليه ،، وجزء من الرسالة التي آمن بها،، وهو باب للولوج لجنته.
كان رحمه الله جزءاً من حركة التجديد ،، ورائداً من رواد الصحوة الإسلامية الأبرار ،، وامتاز بشمول النظرة ،،، ودقة التخطيط للوصول للهدف ،، وكان له ما أراد بعد تسلحه بالتوكل على الله.
ترك موقعه في قيادة جماعته،، وهو في قمة العطاء إثباتاً لسنة التجديد ،،، ورفضاً للاستعصاء على الموقع ،، وأثبت بحق أن الرجال يصنعون المواقع ،، وليست المواقع هي من تصنع الرجال.
هو ظاهرة بين أقرانه ،،، رجل من عامة الناس ،،، لكنه بذل ليصبح الرجل النموذج ،، ليس بكثرة المال ،، ولا بحب الظهور على مواقع الإعلام ،، ولا بالقفز بين المواقع ،،، بل كان الرجل النموذج بالتضحية والفداء ،،، والنموذج بالتجرد والعطاء ،،، والنموذج بالتمرد على الخنوع والاستكانة.
كان يرحمه الله يُؤْمِن أن أصحاب البدايات المحرقة ،،، ستكون لهم نهايات مشرقة،،، فكان يقضي نهاره في عيادته يداوي ضعف الناس ومرضهم ،، وبعض يومه بين الأيتام،، وبعضه في المدارس الإسلامية ،،، وبعضه الآخر ساعياً في قضاء حوائج الناس ،،، ويقضي ليله خدمة لدعوته ،، وبعضه باراً لوالديه - رحمهما الله - وبعضه مؤدياً لواجبات بيته وأسرته.
وكان يدرك - رحمه الله - تمام الإدراك أن من لوازم التوفيق في النهايات ،،، صلاح الاستعانة بالله - عز وجل - في البدايات ،،، وكان يفهم الاستعانة بالله بحقها ،،، فهي ليست بالركون ولا التواكل ،،، ولكنها بحسن اللجوء لملك الملوك ،،، وثبات اليقين بصدق وعده ،، ولزوم نصره ،،، وحسن التدبير والتخطيط الموصل إليه.
عاش رحمه الله وقد بنى فكره وفلسفته على ثلاثة منطلقات :
1. المنطلق الرباني،،، فكم كان يردد أن الله غايتنا ،، وكان ترديده فعلاً وثقة ،، لا قولاً وتردداً وشك،، وكان يعيش حياته بمعاني لا إله إلا الله ،، فكانت منطلقه لكل أمر ،،، وكانت مآله لكل شأن.
2. منطلق الإحساس الإنساني : ذلك أن الرسالة التي آمن بها ،، وعمل لأجلها منطلقها إنساني ،،، وإشعاعها إنسانية سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ،، ولذلك فقد ملك رحمه الله مفاتيح القلوب ،،، ومداخل العقول ،، فكان قريباً لمن عرفه ،، ومحباً لمن يلقاه ،،، وصولاً لأصحاب الحاجات دون مسألة منهم ولا طلب.
3. المنطلق الأخلاقي: وأكرم به من منطلق ،،، تعلو به الرجال ،، وتسمو به النفوس ،، وتزهر به المكارم ،،، قرينة كل أمر الخلق ،،، وسنام كل شأن الخلق ،،، فما كان خلق الإسلام في شيء إلا زانه ،، وما نزع من شيء إلا شانه ،،، وكان رحمه الله يعيش معالي الأخلاق ومكارمها في سائر أمره ،، فعلاً وسلوكاً وقولاً ،، وبذل لذلك أغلى ما يُبذل ،، وتحمل لأجل ذلك الكثير.
عشنا معه أسرته الصغيرة ،،، وعاشت معه أسرته الكبيرة - جماعته وأخوانه - فعرفوا فيه صفات عديدة ،،، لكن أجلها ،،، وأجملها ،،، وأعذب ما ميزها ،،،
1. سعة صدره ،،، فكان صبوراً على الأذى ،، صبوراً على المرض ،، صبوراً على شكوى من حوله ،، يسع بخلقه وحكمته الناس ،، ويلبي حاجتهم دون تأفف أو ضجر.
2. التواصل : فقد كان رحمه الله وصولاً لمن حوله ،،، في أفراحهم وأتراحهم ،،، في حاجاتهم ،، يتفقد من معه ،، ويدرك حاجتهم بفراسته ،،، لا يقطع أحداً رغم كثرة إنشغاله،، ويكثر الدعاء لكل إخوانه وأحبابه.
3. النزاهة : فقد كان رحمه الله عافاً عن الدنيا وما فيها ،، لا ينظر إلى ما في أيدي الناس ،،، ولا تشغله الدنيا ،،، وكم أدبني و وجهني بأن لا أضع الدنيا في قلبي ،، ولا المال في يدي ،،، وكان من ثمرة ذلك له زهده في الدنيا ،، وتجرده عن مطامعها.
4. الحس القيادي : وهو حس موهوب ،،، ورزق مقسوم ،،، وقدرة ممنوحة من رب كريم ،، فلم تكن قيادته لقباً وظيفياً ،، ولا منصباً موروثاً،،، بل تقديم إخوانه له ،،، لما عرفوا فيه من حرص عليهم ،، وتجرد عن دنياهم ،،، وإخلاص لدينهم ،،، وتضحية لدعوتهم،،، وحسن فهم لفكرتهم ،،، وبأنها حزم بلا تسلط ،،، ورعاية بلا وصاية ،،، وأمر يسبقه إقدام ،،، وسعي يسبقه جهاد،،، ورأي يسبق وعي،،، وقرار يسبقه تخطيط وتدبير،، كل ذلك جعله موضع ثقة الكبار ،،، وملاذ كبار الثقات.
5. العمل ضمن بناء مؤسسي: فلم يرى الفردية منهجاً ،،، ولا حلاً ،،، ولا خلقاً ،،، ولا ديناً،،، بل رأى الإسلام كله قائماً على الاعتصام الجماعي بحبل الله ،،، ورأى الخير كله بالتواصي الجماعي بالحق ،،، ورأى النصر كله بالتواصي الجماعي بالصبر ،، وكلها لا تكون لفرد ،، بل لجمع مؤسس على الحق ،،، وائتلاف قائم على الخير ،، ومؤسسات تتكاتف سوية خدمة للدين والوطن والأمة.
6. القدرة على المزاوجة بين العلم والعمل ،،، وبين الدعوة والتنظيم ،،، فلم يكن منشغلاً بالخطابة وتسلق المنابر ،، بل كان رجل ميدان يقرن العلم بالعمل ،،، طبيباً لأوجاع الناس ،،، وملبياً لحاجاتهم في ميادين العمل الخيري والتعليمي والاجتماعي والسياسي ،،، ومنشغلاً بدعوته وجماعته ،، يبتغي وجه ربه في ذلك كله.
7. القدرة على الاتصال بأصله ،،، والارتباط بعصره ،،، فزاوج بين الأصالة والمعاصرة ،،، لم ينقطع عن تطورات العصر وتصوراته ،،، وما انفصل عن أصل دينه وكريم سلفيته.
ذلك هو يا سادتي فقيدنا الذي غاب ،،، فلا تعتبوا علينا إذا تألمنا لفقده ،،، وذلك هو والدنا الذي غادر المكان والزمان ،،، فلا تلومونا إذا توجعنا لرحيله،،، فمثله تبكيه الرجال ،،، وقد رأيت العشرات يبكونه،، ومثله يفتقد في الملمات وساعة العسرة ،،، ومثله يفتقد في ساحات الثبات والمواقف والحكمة.
عزاؤنا أنه في ضيافة الملك ،،، ورجاؤنا أنه في كنف الكريم ،،، وأملنا أنه في حياض العظيم ،،، وسؤالنا أن يكون في عداد المغفور لهم ،،، ومسألتنا أن يجمعنا به الرب الرحيم حول حوض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم،،، رحم الله أبي ،،، رحم الله الدكتور فخري صويلح ،، الرجل الذي يفقده الرجال