لطالما تغنّى والدي بشخصية (الرّيس) .. ولطالما عدد مناقبه العديدة على مسامعنا وقمع بكل شراسة أية محاولات لخدش صورته في أعيننا أو التشكيك في نواياه امامنا.. ورغم أن ذاك العمر الغضّ يجعلنا نتشرّب قناعات المحيطين بنا- فمابالك لو كان والداً- دون تمحيص كاف ورؤية واعية، الا أن اعجاب والدي بجمال عبدالناصر لم يكن السبب الوحيد لانبهاري بتلك الشخصية الفذّة..فالذي غذّى إكباري لذاك الرجل كان اكثر من مجرد رغبة طفولية لكسب رضى الوالد وإثارة إعجابه، وأعمق من شغف آنيّ بصورة او فكرة..
فناصر الذي عرفت، ولم أرَ..وسمعت، ولم أشهد، مثّل تجسدا حقيقياً لانتصار المقدرة على الحلم وإثباتا كاف لارادة البقاء ورغبة الشعوب في الانعتاق..
ولا أنكر أنني لطالما وددت ان أخط شيئاً أعبّر فيه عن امتناني للقدر بان منحنا نموذجاً مشرّفا واستثنائياً كناصر ، الا انني وفي كل مرّة، كنت اتردد في الكتابة لشعوري بأن ما انجزه هذا الرجل اكبر من كل الكلمات واعظم من أي إشادة ..ولعلمي بأن أي مفردات تكتب فيه لن تزيده القاً بقدر ما ستهب كلماتي بريقاً وفخراً..
لكنني وفي الذكرى الثامنة والثلاثين لرحيل جمال، وبعد انتهاء عرض آخر حلقات المسلسل الذي روى جزءاً يسيراً من تفاصيل حياته الغنية، وجدتني ارغب في الحديث عنه..
أرغب في التعبير عن دهشتي المستمرة من جيل لم يشهد أي عصر للثورة، ولا أي خطاب حيّ لناصر، لكنه مع هذا احبه، عن جيل ولد بعد وفاته باعوام ورغم هذا أجلّه،عن جيل أنتمي اليه..يفتقد لرموز حقيقية يصبو اليها ويتمنى لو أنه قد عاصر بعضا من تلك الأعوام التي شهدت تحركات شعبية وطلابية واسعة، ولمست مطالب حقيقية تحققت، وانجازات واقعية تمّت..
إن ما حققه ذلك الصعيدي الأسمر والخطيب المفوّه ، وحده، في سنين معدودة – حتّى ولم لم ينل رضى الجميع- عجزت عنه أجيال بأكملها جاءت بعده..إن انجازات ناصر ورغباته وآماله وخطواته _وان أدّعى البعض أن منها ما لم يُصب_ الا أنها تمكنت من كسر جدار الخوف من المستعمر وتحطيم الصورة الاسطورية لعدو لايقهر، وتعزيز كرامة المواطن العربي وجعله يحلم بعد ان أوشك أن يفقد مقدرته على اسشتراف غد افضل,,
إن ما أحبه والدي في ناصر أُحبه ايضا..وأُحب فيه أشياء أكثر، فناصر لأبي رمزٌ للعروبة والنضال وامتدادٌ لعصور كانت فيها العروبة افتخار، وناصر لي، ولغيري ممّن لم يعاصره، إرادةٌ صلبة وحلمٌ تحقق ، ونموذجٌ من الواقع لرجل حقيقي نظيف الذّمة، في زمن عزّت فيه الرجولة وتلاشت منه الأنفة واختفى فيه الشموخ..
ولأولئك الذين سيلقون بسمّهم نحوي متهمينني بتمجيد شخص، ومقللّين من حقبة انجازات، أقول أن رجلا كجمال لايمكن النظر اليه باعتباره قائدا فقط، بل جبل إباء ، وحقل كبرياء، لا بل ومذهبا قومياً ومدرسة عروبية واتجاها تقدميا تحرريا يستحق الاحترام..
إن ارتقاء جمال عبدالناصر من صفوف الشعب المتواضع الى سدة الحكم، في أوقات عصيبة كتلك، لايمكنه ان يعني الا أنّ تلك الروح سكنتها رغبةٌ عارمةٌ في التغيير ، وامتلكها أصرارٌ هائلٌ على ترميم جراح أمة مكسورة والشد من أزر شعوب متفككة وتحويل نبض الشارع العربي الى جملة واحدة تهتف باسم الوطن الأكبر والوحدة الحقّة ..
لا عجب من أن والدي معجبٌ بناصر ، فمن منّا لا يحبّه..من منّا لم يدرك ان رحيله عنّا لم يهزّ دولنا فقط بل العالم باسره، اننا بفقداننا لجمال لم نخسر جزءا من أفئدتنا وحسب، بل تجرّعنا بمرارة خسارات أكبر، فناصر لم يكن مجرد رجل، بل أُمّة..
انني و في هذه الأيام التي تسبق الشتاء، أحاول استحضار لحظات غياب ذلك العملاق، ذات مساء خريفي من أيلول، ففي عصر يضجّ بالأقزام، تستطيل قامات أمثاله، ويتلوّن الماضي بطيف أحلى..واحسّ بذنب قاتل، رغم أن لا يد لي في الفجيعة، بأنّنا خذلنا ذلك الحلم .. وأحبطنا، بقصد أو بدونه جميع المبادرات النقية لرجل امتزجت رؤيته بدمائنا وحُفرت بحّة صوته في رزنامة أيامنا..أحسّ في الكثير من الأحيان بأننا لم نكن على قدر الحلم الذي أتى به ولا بحجم الأمل الذي بذل عمره لزرعه في نفوسنا..ما أحوجنا الى رجل مثله، يعيد بأنامله الذهبية إعادة صياغة التاريخ..
وأستحضر كلمات نزار...وشهادته في ذاك الناصر الذي لم يتكرر بعد...
لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟
فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا..
أُنادي عليكَ.. أبا خالدٍ
وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ
وأعرفُ أنكَ لن تستجيبَ
وأنَّ الخوارقَ ليستْ تُعاد…