لم تستمر طويلاً بارقة أمل الشعوب والمجتمعات العربية بإرهاصات الإصلاح والدمقرطة التي انتعشت في السنتين السابقتين، مع تلك الموجة الخاطفة التي انطلقت بعد احتلال العراق. فسرعان ما انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وبدلاً من الارتقاء درجة في سلم الديمقراطية حدثت نكسة أكبر باتجاه الطائفية والانقسامات الداخلية في العديد من الدول العربية، وعاد الاعتبار للدور الأمني سواء على الصعيد الداخلي- القطري، أم على صعيد العلاقات العربية- الأميركية ليحكم قبضته على الحياة السياسية العربية ويتلاشى معه زخم الدعوات الأميركية والغربية المطالبة بالإصلاح. ثمة أسباب عديدة تذكر في تفسير "الاستثناء الديمقراطي العربي" والانتكاسات المتتالية على هذا الصعيد، مقارنة بنماذج متعددة أخرى في العالم استطاعت جميعها تجاوز حالة النظم القمعية واستنشاق هواء الحرية، إذ لم يبق إلاّ الدول العربية في ذيل قائمة الديمقراطية العالمية مقارنة حتى بدول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية التي تحررت حديثاً من الهيمنة الشيوعية والسوفيتية.
لا يمكن إنكار ما تقوم به السلطة السياسة العربية اليوم، التي تتقاطع الديمقراطية مع مصالحها ونفوذها وسطوتها، ويقال الشيء نفسه عن العامل الخارجي، الذي كان على الدوام مصدر إسناد ودعم للتسلطية العربية، وقد ظهر أثره السلبي معكوساً بعد أحداث أيلول 2001، فبمجرد اهتزازه قليلاً تضعضعت هيبة السلطات العربية وخلقت مساحة من الحركة والحرية للمعارضة، قبل أن تعود المياه إلى مجاريها مرة أخرى.
المسألة أبعد من السياق السياسي الرسمي، فعلى الرغم من استطلاعات الرأي - التي تجري في كثير من الدول العربية- وتظهر أنّ الأكثرية الشعبية تؤيد الديمقراطية ومضامينها المختلفة، فإنّ المسافة ما تزال شاسعة بين دعوى تأييد الديمقراطية وتجميلها في موقف الشعوب العربية وبين وجود حامل اجتماعي وطبقة عريضة في المجتمع تؤمن بوضوح أنّ الديمقراطية تمثل مصلحة أساسية لها، وأنها تتوازى مع أساسيات الحياة، وأنه لا يمكن الفصل بين لقمة الخبز والحرية بأي حال من الأحوال. فتلك الثقافة الديمقراطية المتجذرة في الوعي الاجتماعي العام مفقودة في العالم العربي.
قد يعترض البعض على الفكرة السابقة قائلاً: إنّ الشعوب العربية تمتلك وعياً سياسياً متميزاً، وهنالك حركات معارضة شرسة وعريقة في كثير من الدول العربية تتوازى مع حراك وحوار سياسي قد لا تجد نظيراً له في كثير من دول العالم المتقدم. إلاّ أنّ هذه الدعوى بحاجة إلى تمحيص وتدقيق أكبر، فتلك المعارضة السياسية تقفز دوما عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخطاب وفي ممارستها، بينما تعطي الأولوية لقضايا سياسية أخرى كالقضية الفلسطينية والعامل الخارجي وتعلي من الجانب الأيديولوجي (أفكار قومية، يسارية، إسلامية). ما انعكس طيلة العقود السابقة على مدى شعور المواطن العربي بأن الديمقراطية وحقوق الإنسان تأتي في مرحلة ثانية أو ثالثة أو رابعة.
قارن بين عدد المسيرات والمظاهرات التي تخرج في العالم العربي مطالبة بالإصلاح السياسي والديمقراطية أو تناصر قضايا حقوق الإنسان أو تقف ضد الفساد، بتلك المظاهرات والمسيرات التي تخرج ضد السياسة الأميركية أو الاسرائيلية. وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك في قراءة ظاهرة "المتطوعين العرب" وأكثرهم من فئة الشباب، إذ يخرجون في سفر طويل متسللين ومخاطرين إلى أراضي الموت في العراق وأفغانستان والصومال، وربما غداً دارفور، لـ"الدفاع عن أعراض المسلمين"، بينما يكون في وطنه لا يحرك ساكناً نحو المطالبة بالديمقراطية والإصلاح، هذا إذا كان يؤمن بهما أصلاً!
ما سبق لا يعني أن المطلوب هو التخلى عن القضايا القومية والإسلامية، بل التنبه إلى أنّ الإصلاح والديمقراطية هما مطلب حيوي، وأنّ ما وصل إليه العالم العربي من حالة مزرية من الضعف والاحتلال والتفكك هو نتاج مباشر لحقبة الاستبداد والفساد وغياب الديمقراطية وانعدام الحرية. فالنظم العربية لا تمانع في خروج مئات المسيرات والمظاهرات ضد الأميركيين والإسرائيليين أو ذهاب الشباب إلى "ساحات القتال" ولا تقف ضد صدور الكتب والمقالات التي تضع اللوم كله على الخارج، فذلك يريحها من عناء مواجهة كتلة اجتماعية كبيرة تدعو إلى الإصلاح والتغيير الداخلي.
القاعدة السابقة قد تكون كسرت قليلاً في الآونة الأخيرة من خلال بروز حركات معارضة شعبية تعطي الأولوية للديمقراطية وتضعها في بؤرة اهتمامها وخطابها السياسي، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في سورية بحركة "المنتديات" وما سمي "ربيع دمشق"، وفي مصر في حركة كفاية ودور القضاة وأساتذة الجامعات وازدهار الصحافة المعارضة، إلاّ أنّ هذه الحركة الجديدة لا تزال تعاني من قصور الحامل الاجتماعي وضعفه مقارنة بالحركات الأيديولوجية الأخرى كالإخوان المسلمين حالياً والقوميين واليساريين في العقود السابقة.
في هذا السياق يقدم المؤرخ المعروف هوبز باوم في كتابه "عصر الثورة أوروبا (1789-1848)" تحليلاً متميزاً لطبيعة الظروف التي ولدت في رحمها كل من الثورة الصناعية والثورة الفرنسية والحراك الاجتماعي والثقافي الذي صاحب ذلك، وما يلفت الانتباه ويتطلب قراءة عربية معمّقة أولاً العلاقة التاريخية بين الثورة الصناعية والثورة السياسية، وثانياً أن التطور باتجاه الديمقراطية (الخلاص من النظم الملكية المطلقة التي كانت تحكم أكثر المدن الأوروبية) ارتبط بولادة طبقات اقتصادية جديدة (البرجوازيين الجدد) اشتبكت مصالحها مع بعض الأمراء والنبلاء والمثقفين للخلاص من النظام الإقطاعي- الديني السائد، وبالفعل ومن خلال عملية تاريخية وتسويات وصفقات سياسية تحركت السياسة الأوروبية باتجاه الأخذ بأفكار التنوير والإصلاح السياسي والتخلص من النظام السابق.
بالتأكيد، التاريخ الأوروبي مختلف تماماً عن الخبرة العربية، لكن الفكرة المهمة من قراءة هوبز باوم أنّ ولوج عصر الإصلاح مشروط بوجود طبقة اجتماعية تربط بقوة بين مصيرها ومصالحها ودورها ووجودها وبين الديمقراطية، وهو ما يدعو إلى قراءة اجتماعية ثقافية نقدية للمجتمعات العربية وتطورها وصولاً إلى البحث عن الحامل الاجتماعي الصلب القادر على القيام بهذه المهمة التاريخية. وهذا لا ينفي أهمية وجود خطاب فكري- سياسي عربي يحمل قضية الديمقراطية كأولوية ومطلب حيوي ويدفع باتجاه التخلص من الإرث التاريخي لعقود من الاستبداد والملكية والحكم المطلق وانتصار مبدأ الطاعة والوحدة على قيم الشورى والحرية والعدالة.
بكلمة: يتشكل ثالوث الإصلاح الديمقراطي من طبقة اجتماعية تربط مصالحها حيوياً ومصيرياً بالديمقراطية وخطاب فكري وسياسي يعبّد لها الطريق لإيجاد البديل الجديد وأخيراً لا بد من حركة إصلاح ديني تجعل الدين محفزاً نحو الحرية والتنمية والديمقراطية لا معيقاً ومخدراً.
m.aburumman@alghad.jo