قلت في المقال السابق أن موجة العنف والجريمة التي تجتاح الأردن ليست حالة عابرة, لكنها صارت سلوكاً اجتماعياً بدأ يترسخ ويأخذ أشكالاً مختلفة, ويستخدم أدوات مختلفة, مما يستوجب من الجميع التصدي له, وأول خطوات التصدي لانتشار الجريمة في الأردن يكمن في معرفة أسباب تناميها, وعندي أن أول هذه الأسباب هي حالة التوتر والقلق التي يعيشها الأردنيون بسبب ظروفهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الضاغطة, ونظن أن هذا سبب رئيس من أسباب خروج الأردنيين عن طورهم, وعن طبيعتهم المسالمة,ومن ثم جنوحهم نحو العنف الذي يدفعهم إليه الضغط الاقتصادي المتنامي على أعصابهم, ومن ثم بقاء هذه الأعصاب متوترة, توتراً صار يعبر عن نفسه بممارسة العنف لأتفه سبب, ففي الأخبار أن مشاجرة جماعية أوقعت إصابات نشبت في بلدنا بسبب الخلاف في موقف الباص, وفي الأخبار أيضا أن مشاجرة جماعية استخدم فيها الرصاص أصيب بها ثمانية أشخاص, كل ذلك بسبب الخلاف على معرش بطيخ, وهذه وقائع تدل على حجم التوتر العصبي الذي يعيشه الأردنيون بسبب أوضاعهم الاقتصادية وهو التوتر الذي لم تستطع أن تخفف منه سكينة الشعائر الدينية, بدليل وقوع مشاجرات في المساجد, وبدليل حجم ونوعية الجرائم التي شهدها شهر رمضان الذي ودعناه, والذي يفترض أنه شهر السكينة والصفح والتسامح فما حدث في رمضان المنصرم عكس ذلك كله.
إن مما زاد من أثر التوتر الذي يعيشه الأردنيون أنه صار مصحوبا باحساس عال بالغبن, الذي ولد لدى معظم الأردنيين حالة من عدم الرضا عن ما يجري لهم في بلدهم, وهو احساس زاد من حدته الحديث المتنامي عن الفساد الذي صار سببا مباشراً من أسباب وقوع بعض الجرائم .
وعند الفساد والحديث عنه لابد من الإشارة الى دور وسائل الإعلام في تغذية حالة عدم الرضا عند الأردنيين, عندما تبالغ هذه الوسائل في الحديث عن الفساد وحجمه وصوره, بل واختلاق بعض قصص الفساد في الكثير من الأحيان بهدف الإثارة واستقطاب جمهور القراء والمستمعين وهي الإثارة التي تستخدمها بعض وسائل الإعلام عندما تخصص مساحات واسعة للحديث عن قصص الجريمة, ونشرها بصورة مشوقة تحببها إلى نفوس المتلقين, دون أن يعلم القائمون على هذه الوسائل أنهم يروحون للجريمة ويزينونها, فهناك الكثير من الحالات التي دلت التحقيقات فيها على أن مرتكبي الجرائم تأثروا واستفادوا من قراءتهم لقصص الجرائم او استماعهم إليها في بعض وسائل الإعلام.
وفي إطار الحديث عن الفساد كسبب من أسباب الجريمة,يأتي الحديث عن المحسوبية التي تأخذ هنا شكل التراخي في معاقبة بعض المرتكبين أو حتى ملاحقتهم, وهنا يبرز سبب آخر من أسباب بروز ظاهرة العنف وانتشار الجريمة, وهو طول إجراءات التقاضي, وتعقيداتها مما يدفع بعض أهالي الضحايا للثأر, وأخذ ما يعتقدون أنه حقهم بأيديهم بعيداً عن حكام القانون, وهذا بدوره يقودنا إلى سبب آخر من أسباب تنامي معدلات الجريمة في المجتمع الأردني, والمتمثل بالتغير الذي شهدته العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع, حيث أدى عدم احترام التقاليد والأعراف العشائرية التي طالما شكلت رادعاً هاما من روادع الجريمة في بلدنا إلى العديد من الجرائم, كما حدث خلال رمضان في الزرقاء عندما قتل من حاول أن يحمي «دخيله» كما تقتضي الأعراف العشائرية وبالتالي فإن عدم احترام التقاليد والأعراف العشائرية قاد إلى غياب الرادع الاجتماعي عن المجتمع الأردني الذي علينا أن نقر أن تماسكه قد بدأ يضعف, وهذا يشكل سببا رئيسيا من أسباب تنامي موجة العنف والجريمة التي يشهدها بلدنا.
يرتبط بغياب الرادع الاجتماعي سبب آخر من أسباب تنامي موجة العنف والجريمة في بلدنا, يتمثل في بروز التشكيلات العصابية التي صارت حديث الناس في أكثر من منطقة في بلدنا, والتي تفرض خاوات على الكثير من المرافق, بالإضافة إلى لجوء البعض إلى استدعاء الأشقياء واستخدامهم ضد خصوم من يستدعيهم, بالإضافة إلى بروز الهويات الفرعية التي تغذي عقلية القطيع لدى أبناء الحي أو الأقارب أوغير ذلك من مكونات الهويات الفرعية في مجتمعنا, التي بدأت تنمو على حساب الهوية الوطنية الجامعة وتُوظف لارتكاب الجرائم.
كثيرة هي أسباب تنامي الجريمة في مجتمعنا, فغير الذي أشرنا إليه في الفقرات السابقة هناك دور العمالة الوافدة في هذا التنامي, فهذه العمالة أدخلت إلى مجتمعنا قيماً مختلفة, وصوراً مختلفة من الجرائم وانواعها.
غير العمالة الوافدة ودورها في تنامي نسبة الجريمة في مجتمعنا فإن من أعظم أسباب انتشار الجريمة في بلدنا هو احساس الناس بغياب هيبة الدولة وحكم القانون, من خلال التساهل في ملاحقة المقترفين ومعاقبتهم, وهذا احساس خطير لا نريد أن يستوطن في العقل الباطن للأردنيين, وحتى لايتم ذلك علينا أن ندق جرس الإنذار وأن نسارع إلى تأكيد هيبة الدولة من خلال الحزم والحسم في تنفيذ القانون وتغليظ العقوبات, على أن يكون ذلك مسبوقا ببناء العدالة الاجتماعية كطريق لبناء السلم المجتمعي, وبغير ذلك فإن هذه الموجة من العنف والجريمة ستتنامي لتشكل أرضية خصبة لنشاط التنظيمات التكفيرية التي تتربص ببلدنا, وتنتظر كل سانحة لنشر فكرها بين شبابنا, الذي صار من المهم بناء الاحساس بالثقة والرضا لديه, وهذه أول خطوات منع الجريمة واستعادة مجتمعنا لسمة الهدوء والسكينة التي كان يتصف بها, والأهم من ذلك أنها خطوة ضرورية لسد المنافذ أمام الفكر التكفيري.
الراي