هل استعادة الذكريات الحزينة والكئيبة مجدية في هذا الوقت , الذي يعيش كل بلد عربي ازماته الخاصة , وتعيش كل طائفة وإثنية احلام بلفورها الجديد , بل تستحضر بلفور وتتمنى استنساخه كي يمنحها قطعة ارض لاقامة وطن لقوميتها او لاثنيتها او لطائفتها , ولكن هل الذكريات والمناسبات الفلسطينية والقومية تموت ثقافيا؟أم هي حياة متجددة يخضّرعطاؤهاباستمرار؟ ونستحضرها كي لا نموت ولا تموت القضية المركزية ثقافيا على الاقل كما ماتت اكلينيكيا في دهاليز السياسة .
الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود اختصر وعد بلفور وحال الامة في ذلك الزمان في بيت واحد يقول فيه :
“ لما قضى وطرابفضل سيوفنا نسي اليد البيضا ولم يتذكر “
فثمن التحالف مع الانجليز في الحرب العالمية الاولى اثمر عن وعد بلفور, فنجحت الثقافة في اختصار الحالة السياسية التي كتب وسيكتب عنها مجلدات في بيت شعر واحد , لتثبت الثقافة أنهاتاريخ كتب بقصائد شعرية ولن ينتهي وقتهاكما يحاول الساسة والسدنة اثباته بان الاحداث والاشعار صارمن المطلوب أن تظل في خزانات الذاكرة؟
بلفور في ذكراه المئة تحول من مجرد وعد , الى حالة قائمة ومستدامة ومطلوبة للاستنساخ وليس مجرد وعد اطلقه مَن لايملك لمن لا يستحق , بعد ان اعترفت كيانات الامة السياسية بهذا الوعد وقبلته , سواء الانظمة او الاحزاب بكل تلاوينها سواء كان القبول علنيا او تحت ذرائع المرحلية والهدنة الطويلة , وبالتالي لا يمكن الحديث عنه ووصفه بالمشؤوم كما درجت العادة على المستوى السياسي والخطابي , فوحدها الثقافة والوجدان تستطيع وصفه بالمشؤوم لانها ما خالفت وجدانها او استكانت الى موازين القوى والاعيب السياسة .
بلفور اليوم تتم قراءته بشكل مقلوب وثمة اماني عند كثيرين كي يحصلوا على مثيل له , كما الثنائي سايكس بيكو الذين يتم اعادة الاعتبار لهما الان ,في زمن الدول الفاشلة وصعود مفهوم الطوائف ودويلاتها التي تنتظر الترسيم البلفوري او التقاسم على المنهج البيكاوي , والحالة الشعرية متردية والواقع الثقافي يعاني من هزيمة امام الجديد الافتراضي وتراجع روائح الحبر في بلادنا , وتراجع الاثر القومي والاحزاب القابضة على جمر الوعد غير التكنوقراطي , وتعديل المناهج بما ينتقص من الاثر القومي والتاريخ الوجداني في عقول ووجدان الاجيال الناشئة .
بلفور الذي تستذكره اليوم طوائف بعقل مقلوب , استقبلته فلسطين بحالة ابتكار متجددة للمقاومة وفعلها المستمر , حين انتج فتية وعدهم الخاص برفع كلفة الاحتلال ودفع ثمن فوارق السياسة من دمهم الفائر , بعد ان احجمت دوائر الفعل الرسمي عن الفعل الحقيقي وتطاردهم محاولة اقتلاع وعيهم الخاص وتحارب ابتكارهم الجديد , الذي بشر به عبد الرحيم محمود منذ عقود طويلة قبل ان نبشرّه في قبره بسحب قصائده من المناهج .
بلفور حاضر ومتجدد ونظيريه سايكس وبيكو حاضران ايضا وان تبدلت الاسماء والالقاب , وبدعم استثنائي من دويلات الطوائف وسدنة الاثنيات وتجار النخاسة والسياسة ورغم غياب الشعراء او تراجع دورهم الا انهم باقون وقادرون على انتاج ادوات المقاومة اللازمة لشحذ همم شباب إستلّوا من عظام الصدر اغصانا وحجارة وسكاكين وقاوموا دبابات الغزاة الذين استقبلتهم دويلات الطوائف كفاتحين .
بلفور وعد مشؤوم وسيبقى كذلك , وثقافة المقاومة ستنتعش وستعود القصائد جذلى واكثر غزارة , فما يمور تحت دخان الهزيمة والتسلط على الاحلام والاماني سيستنهض همم جيل شاهد المجزرة بكل ابعادها رغم عدم معايشته لها .
الدستور