الانظمة والقوانين الادارية في الدولة ترتب الموظفين داخل كل وزارة او مؤسسة، وداخل كل حكومة، بحيث يصعد الفرد في مكانته ولقبه وراتبه ودرجته وصلاحياته، وهذا الترتيب الاداري سليم. وحتى في التوقيع على معاملة، يكون للمسؤول الاكبر حق التوقيع في نهاية المعاملة. والالقاب، من افندي الى بيك وعطوفة وسعادة ومعالي ودولة، كلها تدل لمن يسمعها على مكانة صاحبها. وهذا يفترض، نظريا، ان الكفاءة والقدرة والشخصية والكاريزما والخبرة تصاعدية ايضا، على الاقل في مجال عمل هذه الدائرة او الوزارة او الحكومة. ومع هذه القاعدة، هنالك توقع لنسبة من الخطأ.
لكن المشكلة عندما تنعكس المعايير، او تغيب حالة الترتيب المنطقي؛ اي ان نجد موظفا اكثر كفاءة من مديره، او مديرا او رئيس قسم اكثر حضورا وفهما للعمل وابعاده الفنية والسياسية من امين عام او وزير. فإذا كان الحال في قضايا فردية، فهو امر متوقع، لكن المشكلة عندما يتحول الامر الى ظاهرة، او تجد الحالات الفردية طريقها لتتحول الى كتلة من الممارسات.
العرف الاداري يحاسب الموظف اذا تجاوز مسؤوله المباشر، ويقال له ان ما فعله "تجاوز مرجع". لكن هذا التجاوز نتيجة للسياسات الادارية عندما تقلب هرم الكفاءة، اي عندما ينقلب هرم المواصفات، فيزداد التشدد في المواصفات والمعايير للوظائف الصغيرة والمتوسطة، ويكون التساهل في المواقع الكبرى. ومرة بعد اخرى، سيجد الموظف انه موجود وفق كفاءة وشروط، وان لديه، مع الايام، خبرة كبيرة في مجال عمله، بينما من هو امين عام او وزير، واحيانا اقل من هذا، يهبط الى المكان من دون خبرة ولا كفاءة، ولا تعامل مسبق مع تفاصيل هذا العمل.
تخيلوا، مثلا، موظفا برتبة امين عام قضى 20 او 30 عاما يعمل في وزارته، ولديه كل هذه الخبرة والمعرفة والحضور، وفجأة يهبط عليه وزير يأتي من دون ان تكون لديه اي معرفة بعمل هذه الوزارة، ولا يدرك التفاصيل والقوانين والانظمة؛ طبعا ليس لديه ايضا المواصفات التي تجعله يحمل المواصفات السياسية للموقع، تخيلوا هذا الواقع الذي ليس حلما، وكم هو الاداء المتوقع، بل الاحترام لصاحب الموقع رقم واحد في الوزارة او الدائرة!
وربما لو ذهبنا في خيالنا ابعد، لنتخيل وزراء اصحاب خبرة طويلة يأتون في حكومة مع رئيس بلا اي خبرة سابقة، ولا تكوين سياسي عميق او خدمة طويلة قادرة على ان تجعله يدرك مداخل ومخارج ادارة الدولة، فكيف ستكون نظرة الوزير او الامين، او حتى المواطن إلى مثل هذا الواقع؟
تجاوز المرجع ليس حالة ادارية بل سياسية، ويمكن تسميتها احيانا، او التعبير عنها بـ"الثقة". فإذا لم يجد المواطن امامه طاقما من المسؤولين في كل المواقع اصحاب قدرة وحضور وكفاءة سياسية وفنية، انخفضت ثقته بسلطة هؤلاء، وهيبة اي سلطة ليست فقط في القوانين او الانظمة او الهياكل النظرية، بل في البشر الذين يحملون هذه السلطة ويمثلونها. ولهذا، فأسهل الطرق واجداها لإضعاف اي سلطة داخل البيت او المدرسة او العشيرة او الدولة هو إسناد المواقع الاولى لمن لا يمكنهم ان يحصلوا على ثقة الناس. وسلطة الاب في البيت تضعف عندما يكون ابناؤه اكثر التزاما منه بالاصول، او اكثر حرصا على مصلحة الاسرة، او اكثر معرفة منه بما يجب وما لا يجب.
عندما نكثر جميعا الحديث عن مواصفات ومعايير، فإننا نتجاوز المردود الاداري للقضية الى ما هو اهم؛ فهيبة اي دولة تأتي من قدرات اصحاب المواقع فيها. ولهذا فإن التركيز على المواقع الهامة، وضرورة ان تسند الامور الى اهلها من اهل القدرة السياسية والفنية، ومن لهم مصداقية، وليس السماح باستباحة كل المواقع المهمة، بحيث يصبح ممكنا لأي كان أن يتولاها بناء على معايير غير موضوعية، هذا التركيز اساسه الحرص على ابقاء مفاصل الدولة قوية ذات هيبة واحترام وتأثير، تماما مثل المعلم اذا ما دخل الى غرفة الصف واستباحه الطلبة غير مقتنعين بقدرته وشخصيته، فماذا سيحدث؟ ليس فقط الفوضى وانعدام النظام، بل وتضييع العملية التعليمية التربوية.
sameeh.almaitah@alghad.jo