كغريب حائر أضاع طريقه وسط الزحام، يقف المبدع في بلدي يتيما تائها بلا مرشد وبلا درب منير. تبدأ رحلة المبدع مع الضياع منذ بداياته الأولى، فالأسرة تضع الأطر الاجتماعية أمام جميع أفرادها لتحدد هدفهم وتوجههم إليه، فلا مكانة اجتماعية للفرد إلا إذا كان طبيبا أو مهندسا، وكل ما عدا ذلك هباءا ومضيعة للوقت والجهد. تظهر علامات الإبداع والموهبة على الصغير فهو رسام بارع أو موسيقي ملهم أو ربما ممثل أو لاعب رياضي، يبدأ بممارسة هواياته لإشباع حاجاته النفسية التي فطره الله عليها ولكنها بالنسبة للأهل مضيعة للوقت الذي كان الأجدر بالصغير أن يقضيه في دراسة المواد ذات الثقل المهم في المعدل المدرسي.
يبتعد المبدع عن إبداعه خطوة أولى كإرضاء للأهل الذين يعرفون مصلحته أكثر منه.
في المدرسة تبدأ الحلقة الثانية من سلسلة قتل الإبداع، فها هو التركيز المطلق على المواد الأكاديمية التي تحظى باهتمام كل المعنيين بالأمر في المدرسة، لدرجة أن درس الفن أو الموسيقى أو الرياضة يوصف عادة بحصة الفراغ هذا إن لم يتم الاستحواذ عليه لصالح المواد الأخرى التي يجب تغطية المنهاج فيها، طبعا فحصص الفراغ السالفة الذكر حتى لا تخضع لمنهاج معين أو خطة سنوية محكمة.
تستمر إضافة الحلقات لسلسلة قتل الإبداع المرحلة تلو المرحلة، فها هي الجامعات لا تعنى بالموهبة والإبداع كعناصر يفضل تواجدها لدى تعبئة طلب القبول الجامعي، ناهيك عن أن المعدلات العالية هي متطلب لكليات معينة أما الكليات التي تعنى بالموهبة والفنون والإبداع فلا تحتاج لجهود تذكر من قبل الطلاب بل هي الملجأ لجميع المقصرين دراسيا أصحاب العلامات المتواضعة.
يتخرج الطالب ليبدأ الحلقة الأصعب في حلقات سلسلة قتل الإبداع، فهو حاصل على تعليم لا يؤهله لممارسة تخصصه الذي أمضى سنوات يعاني للحصول على شهادته الجامعية الأولى فيه، ليكتشف المفارقة العجيبة في أن ما درسه في الكتب لا علاقة له بواقع العمل، ثم من قال بأنه سيعمل ضمن تخصصه أصلا فالتخصصات المفتوحة لا تراعي حاجة السوق للعمل، والمتعطلين عن العمل في تزايد مستمر حتى في التخصصات المشبعة والتي يجب إيقاف القبول فيها لمدة من الزمن تعيد التوازن لعملية العرض والطلب. يبدأ الشاب المحظوظ في أداء عمل في الواقع لا يملك خلفية معرفية عنه، فيبدأ سلسلة الإخفاقات التي لا ترحم والتي لا تتوقف عن إقناعه كل يوم بأنه غير مقنع وغير مؤهل.
صاحب الحظ السعيد الذي اجتمعت لديه الرغبة في التخصص والتفوق فيه والعمل ضمن إطاره يحظى بالفرصة الأوفر لتقديم عمل مبدع، ولكن المسؤولين عنه يقومون بالمهمة الأعظم وهي توجيه إبداعه في كل اتجاه، فرئيس قسمه له رؤية معينة بينما مديره المباشر له رؤية أخرى أما صاحب العمل فله رؤية ثالثة ، بينما الرفاق فلكل منهم رؤية عبقرية لو اتبعها لصعد كالصاروخ إلى القمة! تبدأ التجاذبات للتقذف هذا المبدع في كل اتجاه فيتشتت تركيزه وتتوه فكرته بين غيرها من الأفكار التي تنهال عليه من كل حدب وصوب، فتصغر الرؤيا وتضيق الصدور ويتراجع المبدع عن فكرته المبتكرة لأنها تخلق سجالا لا نهاية له فيجد أن من الأسلم له أن لا يزيد شيئا على الموجود أصلا حيث لا مكان لأي جديد، وإن وجد المكان لن توجد الحوافز المادية ولا حتى النفسية للارتقاء بالعمل، هذا إن لم تخرج الحراب من عدة اتجاهات لتصوب نحو المبدع والإبداع.
تساهم الدولة في قتل الإبداع بطرق شتى، فلا مسارح ولا معارض ولا ملاعب ولا مراكز لتبني المواهب والإبداع، ناهيك عن عدم وجود تمويل لمتطلبات الإبداع. فالفنانون يعاني معظمهم من قصر ذات اليد، فحتى الذين قدموا للوطن الكثير نجدهم يكبرون بلا تأمين صحي يحترم ضعفهم، أما إبداعاتهم فهم يجاهدون لإيصالها إلى جماهيرهم الذين يفضلون بدورهم شراء متطلبات عيشهم على شراء تذكرة لحضور مسرح أو شراء كتاب أو مجلة أو حتى قصة.
تمارس على المبدع الكثير من أشكال قمع الإبداع، ولكنه يقاوم طويلا ويحاول أن يثبت وجهة نظره، قد يحالفه الحظ وينجح ولكن قد لا يحالفه الحظ أيضا فيحبط ويتراجع، وقد تحدثه نفسه بهجرة خارج البلاد عل إبداعه يرى النور ويجد من يقدره، وفي هذه المرحلة تراه يقع فريسة حيرته بين أن يبقى ليحاول المرة تلو الأخرى فربما تأتي الفرصة المناسبة ليخدم بلده بما من الله عليه من تميز، وبين أن ينجو بفكرته ليقدمها لمن يقدرها وينميها ويحترمها.
ثم نتساءل لماذا تهاجر العقول خارج حدود الوطن؟ ولماذا يبدع أبناؤنا في الغربة ولا يبدعون داخل الوطن؟ ولماذا لا تسير عجلة تقدمنا للأمام؟ ولكن السؤال الأكبر الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا جميعا هو متى تنتهي جرائم قتل الإبداع، متى نحترم الإبداع والمبدعين؟ متى نمنح الثقة لمن يستحقها؟ ومتى يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب؟