لبنان بالنسبة لي قصة عشق أبديه ورثتها عن والدي (أطال الله بعمره) وهو الذي عاش وعمل بها لفتره من الزمن وكانت له صداقات ومصالح منذ ستينيات القرن الماضي وبقي يتردد عليها حتى بعد اندلاع الحرب الأهلية ولمنتصف الثمانينيات..
وبدورنا بداية كأطفال فقد كانت العطلة الصيفية لا تخلو من زيارة إلى لبنان حيث الاستقرار في بناية “بوتاجي” بالحمرا وليس بعيداً عن “حمام العسكر”من جهه و“بوتيك غاردينيا” حيث كان والدي شريكاً به ومن هناك تنطلق الرحلات لـ“أنطلياس” و“عاليه” و “بحمدون” و“بكفيا” و“برمانا” وحتى “زحله” وشريط ذكريات مشبعه بالجمال الأبدي وأول مره أري فيه ماكينات “الفليبرز” و “شلالات المياه” و “البحر” و “صخرة الانتحار” وأتذوق السمك من “السلطان إبراهيم” وما كان يُسمى بـ“القرش” وأول وأخر مره اشتري فيها “أوراق اليانصيب” وأخسر سيارة “أودي صالون” بعدما تم غسل القميص حيث كانت الورقة.
عندما عدت للبنان في العام ٢٠٠٨ بعد غياب قارب الربع قرن وقفت على بلكون فتدق “الرويال” ب “ضبيه” وإتصلت بالوالد فكان سؤاله “طمني كيف شفت بيروت؟” فجاوبته “ما زالت فاتنه” وبالنسبه لوالدي وخارج إطار المصالح التجاريه والسياحه والعلاقات الأجتماعيه فقد كانت بيروت هي المتنفس الوحيد في الستينات حيث المكتبات وطباعة الكتب والجو الثقافي أنذاك وكيف تأمر الغرب على لبنان الصغير بحجمه الكبير بثقله الثقافي لتدمير “بنك إنترا” الصاعد أنذاك لصاحبه الفلسطيني “يوسف بيدس” وكيف تم إغتيال “إميل البستاني” مؤسس شركة ال “كات” وصاحب كتابي “زحف العروبه” و “شكوك وديناميت”.
غداً سيوارى جثمان “ملحم بركات” في بلدته “كفر شيما” وهي التي لا تبعد عن مركز مدينة بيروت سوى عشرة كيلومترات وعن الساحل سوى كيلومتر حيث يلتقي “الجبل الراسخ” مع “المتوسط الدافيء” وهي البلده التي لا يزيد عدد سكانها عن الخمس وعشرين ألف وبذلك فهي بكل المعايير بلده صغيره بحجمها وعدد سكانها ولكنها كبيره بتاريخها وأهلها حيث تتجلى العبقريه اللبنانيه وعبقرية المكان لتتحفنا بعمالقه كان لهم إسهامات كبيره في الثقافه العربيه بكل ما تعنيه الكلمه من معنى.
“كفر شيما” أو “ربة الحكمه” هي بلدة “ناصيف اليازجي” الأديب والشاعر من القرن التاسع عشر وأهم مجددي “اللغه العربيه” ذو الأصول الحمصيه ومن قبلها “الحورانيه” وكذلك “الياس فرحات” وهو أحد مؤسسي “العصبه الأندلسيه” في أمريكا الجنوبيه وأحد أصحاب جريده “الأهرام” المصريه الغنيه عن التعريف وهو القائل:
مادمت محترماً حقي فانت أخي آمنت بالله ام آمنت بالحجر
دع آل عيسى يسجدون لربهم عيسى وآل محمد لمحمد
أنا لا أصدق أن لصاً مؤمناً أوفى لربك من شريف ملحد
“كفر شيما” هي أيضاً بلده الملحن والفنان وأحد أفراد “عصابة الخمسه” الظريف “فيلمون وهبي” رفيق الرحابنه في مشوارهم الطويل وبلدة الفنانه “ماجده الرومي” بالتبني إبنة “حليم الرومي (وهو حنا البرادعي الفلسطيني الأصل) وهي بلدة الفنان “عصام رجي” وصاحب أغنية “يا سمرا يا تمر هندي”.
وهي أيضاً بلدة “سليم تقلا” أحد مؤسسي جريدة “الأهرام” وتلميذ المعلم الشهير “بطرس البستاني”مؤلف أول موسوعة عربية “دائرة المعارف” وصاحب معجم “محيط المحيط” مما جعل المؤرخين يعدونه من أكبر زعماء النهضة العربية الحديثة.
رحم الله “ملحم بركات” وفي وداعه أجد نفسي أردد كلمات “بحبك يا لبنان” للسيده فيروز ولا أظن أن هناك عربيا منصفا لا يدين للبنان بجزء كبير من ثقافته ووعيه وانتمائه:
بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
تسأل شو بني و شو اللي ما بني
بحبك يا لبنان يا وطني
…………………
سألوني شو صاير ببلد العيد
مزروعة عالداير نار و بواريد
قلتلن بلدنا عم يخلق جديد
لبنان الكرامي و الشعب العنيد