عندما أتقاعدُ. أريدُ أنْ أفتحَ مطعماً في عمَّان. أنا رئيسُ الطهاةِ فيه، وذلكَ أفضلُ من رئيس تحرير صحيفةٍ عربية. أرجو أنْ يقولَ النَّاسُ: كانَ يعملُ صحافيّاً، وأصبحَ طاهياً. يا لَهُ مِنْ شَرَفٍ، لا يُدانيه شرفٌ، فلا يُمكنكَ أنْ تكونَ كاذباً حينَ تقدحُ البصلَ والثومَ في زيتٍ لا يخدعُ أبداً، تحت نارٍ واضحةٍ، لا غموضَ فيها، كالكلامِ المغموسِ في حبرٍ مُزيّفٍ. لا أسود، ولا أبيض. ولا هو حبرٌ، من حيثُ هو مرتبكٌ وجبانٌ، ويَقُولُ ما لا يُرِيدُ.
ما لي وللصحافة، وللخرافة. أريدُ مطعماً، يَكُونُ اسمه "حواضر". أي مما يحضرُ من خير الحقولِ، ومؤونة البيت، وقائمةُ الطعام يكثرُ فيها النباتُ، وينعدمُ اللحمُ. أعددتُها من: رشوفٍ، وحوْسَة بندورة، ومفرّكة بطاطا، ومقلىْ بيض، وعدس. لا أنسى زعتراً وزيتاً، ولبنةً مُدحبرةً جيّداً، وإبريقَ شايٍ ذهبيّ، وللمُترفين من بناتِ وأبناء عمّان فتةُ مقدوسٍ بالصنوبر، وباباْ غنوّج، أحرصُ على تدليلهِ بحبّاتِ الرمّان، ما أمكن. وتلكَ من أبجديّات الغموسِ، حيثُ يوضعُ الخبزُ فَوْقَ الرؤوس.
وأقسمُ أنني لن أقدِّمَ تبولةً، مهما كلفني الأمرُ من خساراتٍ، فليسَ إلى هذا الحد من الصبر يُمكنني قضاءُ ساعاتٍ في فَرْمِ البقدونسِ، ونقعِ البُرغل، لأجلِ أوراقٍ خضراء تختبئُ بين الأسنان، وتستهلكُ كثيراً من الليمون، دُونَ طائل.
أنا أردنيٌّ متجهّمٌ، وأحافظُ على ثقافة بلادي. لستُ خبيراً في التسويق كالسوريين واللبنانيين. ليس لديّ مُقبًّلات سوى "سلطة الحرّاثين". وتلك من بندورةٍ وبصلٍ وفلفلٍ أخضر، وعصرة ليمونٍ "على كيفي". وقد أضيفُ إلى المكوِّنات ملعقةَ زيتِ زيتونٍ، ورشّة سمّاقٍ، أو لا أفعل، وَمَنْ لا يُعجبهُ ذلك، فليبحث عن مطعمٍ آخر، وَمَنْ قال إنني أريدُ زبائنَ، لا يعرفون أنّ "الحواضرَ" مزاجٌ وتكشيرةٌ، وَلَيْسَ ما يُرِيدُ الجائعون.
هكذا، أفتحُ مطعمي، وهو ليسَ بيتي، لأنصاعَ لشروطِ الضيافة. سيكونُ شعاري: "اللي عاجبهْ.. عاجبهْ، واللي مِشْ عاجبهْ، يآكلْ من عندْ غيري".. متجنِّباً تعبيراً سريَّاً آخرَ يعرفهُ الأردنيون، وتعرفهُ الأردنياتُ اللواتي يخجلنَ من عبارة "عدم المؤاخذة"..
كلُّ ذلك من أجلِ حُلم بعيد. ولا كابوس أكثر رعباً وبؤساً مِنْ أن تكونَ صحافياً عربيّاً.. لا تعرفُ من "حواضر" البيت شيئاً، ويُغلقُ في وجهكَ كلُّ بيت، حتى بلادك..