يسبق الى عاجل الظن أن الشباب اقدر من الشيوخ على التجديد, سواء أكان ذلك في الفكر أو في الادب او في شتى ضروب الابداع.
ومن يتجاوز بادي الرأي في هذه المسألة ويتأملها ملياً يجد أن الشباب -فيما تكثر الشواهد عليه – اقرب الى «التقليد» منهم الى التجديد, وذلك لأسباب متظاهرة, منها حرصهم على ان يعترف بقدرتهم على تحقيق الكيفيات التعبيرية كما هي عند الاعلام المعروفين في تاريخ الادب, فهم ينسجون على منوالهم أو يحاولون. ومنها أن التجديد يتطلب اصالة ذاتية وشخصية حدّدت التجارب والمكابدات المعرفية والذوقية ملامحها, وذلك ما لا يكون الا بعد أن يبلغ المرء أشدّه, ومنها ان سنّ الشباب مظنّة الانهماك في مشاكل الحياة وتدافعاتها, وهي غالباً ما تحول بين المرء ونفسه, وتصرفه عن عزمات التجديد واستبصاراته, ومنها أن التجديد لا يكون بغير تأصيل وتأثيل ومصابرة وأناة, وذلك كله مما لا يتواءم وسورة الفتاء ولهوجته واستباقه الامور..
يصدق هذا في الفكر والفلسفة صدقه في الآداب والفنون. كما يمكن توسّمه في كثير من ميادين الحياة, حيث يذهب الظن ابتداء الى أن التجديد منوط بالشباب وحداثة السنّ على حين أنهما لدى إمعان النظر في غير هذا الوارد لما يشغلهما من هموم انتزاع الاعتبار وتحقيق الذات, ولما يعوزهما من شروط التجديد وأصوله وممهداته وكفاياته.
إن أعمال التجديد الكبرى في شتى تجليات الحضارة الانسانية قام بها كهول مجرّبون لا شباب واعدون. أما المضاهأة والتقليد فهما ما يلهث الشباب – الا من رحم الله – في غباره ويهرع اليه, دون أن يجدوا من يمحضهم النصح أو يصدقهم القول, ودون أن تكون ثمّة حركة نقدية تضع أمامهم المرايا الكاشفة وتظهرهم على مغبّة ما هم فيه من وهم التجديد وذهول التقليد. ولعل لمنابر الاعلام والصحافة ولقاعات الدرس الجامعي أدواراً سلبية في تخسير موازين التقويم وطرائق التقييم, ولعلنا - جميعاً - أن نكون مقصّرين, وأن نستشعر فداحة تقصيرنا, وعسى أن تكون هذه اول المكاشفة أو أن تكون توطئة لها فيما نرجو وتمهيداً.
الرأي