تتناحر النخب السياسية في بلدنا الاردن, حول مفهوم الدولة, هذا يريدها مدنية, وذاك يفضلها علمانية, وآخر يرى ضرورة أن تكون دينية, وكأننا لسنا أصلا دولة! , أو كأن مطلوبا منهم شعبيا, أن ينشئوا لنا دولة غير الدولة, فلقد عشنا "ويا لجهلنا وسوء حظنا", مائة عام خلت, بلا دولة! , وأنعم الله بهم علينا, لتأسيس كيان يطلق عليه اليوم, وصف دولة!
الأمر المحزن, هو أن هذا التسابق في التنظير والادعاء, يحدث في وقت مر عصيب, فقر وحرب وإرهاب ولجوء وشرر يلفح وجوهنا من كل الأرجاء, والقوم منغمسون في جدل بيزنطي لا ينتهي, حول شكل وجوهر الدولة التي لنا هم يريدون , أما نحن العامة خارج أسوار "النخب", فما علينا سوى أن نتلقى مخرجات عقولهم , ومنتجات رغباتهم, وعلينا بعدها, السمع والطاعة والتنفيذ ليس إلا!
طرح جلالة الملك حتى الآن, وبأدب ملكي جم, ست وثائق أسماها أوراقا نقاشية, أي هي قناعات مطروحة للنقاش العام, والنقاش العام مكانه البرلمان, فالأحزاب , والنقابات, والجامعات, والمدارس، والبلديات, والجمعيات, والاندية, ومراكز الشباب والشابات, وغرف الصناعة والتجارة والزراعة, والصحافة والإعلام, وسائر مؤسسات المجتمع الأهلي, كي يمكن ان يقال عنه نقاشا لا يستأثر به نفر دون سواهم من خلق الله!
ومع ذلك, فلم نسمع حتى تاريخه نقاشات معمقة تقوم عليها تلك الجهات الرسمية والأهلية, اللهم ربما سوى جامعة البلقاء التطبيقية، وبمبادرة خلاقة من رئيسها الدكتور عبدالله الزعبي , وما عدا ذلك , فمجرد إجتهادات فزعة يقوم بها منظرون يحاولون عبثا فرض آرائهم , على مجتمع معظمهم معزولون عنه أصلا , ويتطوعون هم بتسمية أنفسهم نخبا وهم ليسوا كذلك , على أن واجب الإنصاف يقتضي , الإشارة إلى مبادرات صادقة غير مغرضة في هذا الإتجاه , من بعض رؤساء سلطات سابقين , من مثل طاهر المصري , وحبذا لو إستمعنا إلى آراء نعرف جيدا عمقها ووجاهة مغزاها ونبل مسعاها , من قامات وطنية غيره من خارج السلطات لها حضورها وتقديرها في المجتمع , من مثل عبدالكريم الكباريتي واحمد عبيدات وعبدالهادي المجالي , على سبيل المثال لا الحصر .
النقاش الذي بالضروروة يريده جلالة الملك , يعني الإقرار والقبول , ويعني كذلك , الإضافة والحذف والتغيير حيثما وجب , إعمالا لإرادة الشعب , بإعتبارها المصدر الوحيد لكل سلطة بمقتضى الدستور الذي يقسم كل صاحب قرار , على صونه والحفاظ عليه , وغاية النقاش بالطبع , هي أصلا " التوصل إلى قناعات تفضي إلى قرارات , وليس إلى قرارات تبحث عن قناعات " كما تعتقد زمر النفاق ! , وإلا لكان جلالة الملك قرر وأمر بالتنفيذ , ولم يطرح آراءه للنقاش في أوراق أسماها نقاشية .
خذوها مني أنا العبد الفقير لله , دولتنا الأردنية ومذ نشأت , دولة مدنية , بنكهة دينية يجذرها النسب الهاشمي للقيادة التاريخية الاردنية , لا تطغى فيها سمة على أخرى , وإنما هما متكاملتان تماما , " دولة مدنية برداء ديني " ولهذا , وهذا هو مبرر صمودها في مواجهة أعتى العواصف التي شهدتها المنطقة عبر العقود , لم يفلح حاقد أو متآمر في النيل منها ! .
مفهوم الدولة المدنية الذي يتمطى منظرون كثيرون من زبائن الشبكة العنكبوتية وعالم الإنترنت اليوم في شرحه لنا , كما لو كنا جهلة , هو لعلمهم مفهوم " ديمغرافي جغرافي " مختلط ,وهو بإختصار يعني " مجتمع المدينة " بما له من خصائص سياسية إجتماعية حرفية إقتصادية تميزه عن مجتمع الريف والقرية والقبيلة والعشيرة , وكان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ,أول من بادر في تأسيسه في يثرب التي اسماها " المدينة " المنورة , وأقام فيها العدل بين جميع ساكنيها ومرتاديها أيا كانت أصولهم وفصولهم ومعتقداتهم .
نعم , خذوها مني أنا العبد الفقير لله, ما تحتاجه دولتنا المدنية في ظل ما شهده العالم كله ونحن منه ومعه, من تطور وتكاثر وتجدد في القيم والعادات والتقاليد ومتطلبات العيش , هو فقط, تجذير أمرين ," عدل ونزاهة ", وهذان ثابتان يجسدان البنية التحتية الصلبة, لنمو وتطور أية دولة على هذا الكوكب , بسلام وأمان , وثقة وتميز علمي تعليمي, وبالتالي سيادة مطلقة للقانون , وإحترام مطلق للنظام العام , وتحسن في الإقتصاد وسبل العيش , وبقناعة هي كنز لا يفنى , وقبل هذا وذاك, عشق للوطن ,وإخلاص للدولة وثقة بها , وإسهام فطري طوعي , في بنائها وتقدمها , والدفاع الصادق عنها وعن منجزها ووجودها ! وقبول بها حتى لو كانت فقيرة , وهذا هو المطلوب , إلا إذا كان لدى جماعات المنظرين المتمترسين الدائمين , مبتغى آخر ! . الله جل في علاه , من وراء القصد .