كتب احدهم في صفحته الالكترونية عن الأمانة وتصفية الحسابات وضيق الأفق وترك امر الادارة للصغار...، وحين قرأت بتمعن كلامه تذكرت ما كنتُ كتبته قبل عدة أشهر عن المنتفخين الصغار وما نشرته قبل نحو عام عن مجتمع الكراهية الجديد، وكم كنت سعيدًا حينذاك لكثرة الاتصالات وحجم التعليقات التي نجمت عن نشر تلك المقالة؛ إذ أحدثت صدًى كبيرًا بين أوساط المثقفين وفئات المهتمّين؛ نظرًا إلى أنها تتناول بالنقد والتحليل ظاهرة غدت منتشرة في حاضرنا كما النار في الهشيم، حتى إنها أضحت أسلوب حياة، وترتّبت عليها نتائجُ خطرة لا تُحمد عقباها؛ فها هم كارهو الخير يسدّون بكراهيتهم عين الشمس،
وأقول لمحبي الصدق والكبار فعلاً؛ تعالوا معي أيضاً لتقرأوا ما كتبته عن الصغار، وعن حجم هذا الجرح كيف اتسع في زمن الصغار ليصبح دائرة تلتهم كلَّ عناصر الخير، تعالوا لتروا كيف أصبح اليائسون! وكيف غدت أواصر التراحم والمودّة؟ وكيف أضحى حال العمل في مؤسسات المجتمع؟ تعالوا لتروا المحن إلى أيّ حدّ زادت! والعفن إلى أيّ درجة طفا على سطح الأحداث! ولتروا السفهاء والجهلة كيف همُ اليوم؟ وفي المقابل تروا مآلَ الشرفاء والأوفياء والأصفياء والانقياء، فما أشبهَهُمُ اليومَ غدوا كالأيتام على موائد اللئام، تعالوا وانظروا إلى مصاصي الدماء، والحاقدين، أولئك الذين تبوّؤا المكانة الفضلى في زمن انقلبت فيه الموازين، وانظروا إلى مناهج الجهلاء من أنصاف العلماء ممّن ضاعت عقولهم، وغابت مناهجهم في أتون الحقد والكراهية، تعالوا لتروا وجعَ الناس في زمن يستأسد فيه الأذلّة والأراذلة، تعالوا ثمّ تعالوا، وقارنوا بين ذلك الجيل الذي تربّى على البساطة والقلّة والإيثار، وما يشيع في حاضرنا من سخف وصَغار وأوكار ومواخير لا نهاية لها، تعالوا قبل أن أعود إلى صمتي الرحيم، وأقبع في دائرة من السكون؛ حيث الوحدة والوجع الفريد في زمن التحطيب والكذب المنيّر!؟
نعم، قد أعود إلى صمتي، وأتحسّس على استحياء وجعيَ اللامنتهي، متأمّلاً ذلك الصوت وهو يتهدّج. كم حزنت لشرخ الأيام بعد أن طافت بيَ الأفكار، وحلّق بيَ الخيال بحضوره وغيابه، كم وقفتُ على رسيسِ خيطٍ من وتر اللزاب تشدّه رائحة الطيون، وفي برهةٍ يطلُّ وجه القمر من بين القيقب والدحنون، يقول: لا تتأمّلِ الصوت، ولا تقرأ الحكاية، فأنا محوط بالأوهام ممتلئ بالأحزان، لا أميز رأسي من قدمي، ولا أعرف يقظتي من صحوي؛ سيّان هي الذكرى التي ما لي فيها سوى بقايا أمل ضاع أكثره ولا يتبّقَ إلا القليل. أيا وجه القمر، تحرّك وتأمّل، لا تقف عاجزًا بين مجامع كلّ واحد ضلّ طريقه إلاك. لكنك –أيّها القمر- حين تقرأ المستحيل وتفتّش في قاموس الأضاليل تعرف حينها أنّ الصمت معَ الصغار حكمة، والحديث نقمة، وتدرك في الوقت نفسه أنّ أسئلة (كثيرِ الغلبةِ) لا ترحم، وأنها تأتي أحيانًا لرأب الصدع، وها أنا أمام سؤاله الغريب عن الكبار والصغار في زمن اهتراء الكلام، وإذ به يدقّق في تفاصيل السؤال، قلت له: ماذا تقصد؟ قال: نحن في زمن تختلط فيه المفاهيم، وتقلب فيه المعايير، وسؤالي عمّن ينتفخون أمام عيوننا، ويعتقدون أن الزمن لم يخلق مثلهم، قلت: فهمت سؤالك الآن، وأظنّ أنّ الصمت معَ الصغار بلاغة، والحديث في حَلَبَتِهِم بلاهة، واحترامهم وتقديرهم سفاهة، وعلمهم وفكرهم جهالة. قال: يا صديقي، نحن أمام ظواهر غريبة وأفكار مريعة؛ لذا ينبغي لك أن تعرف أنّ الكبار كبارٌ بحضورهم وجدّهم وصبرهم وعلمهم و...؛ فكلامهم رقي، وقرارهم حكمة، ولفتاتهم إنسانيّة، والصغار صغارٌ مهما كبرت أعمارهم، ومهما كانت درجاتهم، ومهما زادت ثرواتهم، ومهما رَقَتْ وظائفهم، حتى إن كانوا في نظر الآخرين في خانة الكبار فهم في قرارة أنفسهم صغار، ويستطرد قائلاً: حين تنام الكلمات وترحل البسمات وتقف الحروف حائرة بين زمنين؛ واحد يمضي مسرعًا، والآخر يترجّل آهاتٍ وذكريات، تعبرُ المستحيل فلا تجد غيرك يقف أمام نهارات تولّي، وليالٍ تمضي، وأعمار ترحل، حتى الطبيعة بألوانها وسحرها وورودها كأنها تردّد معي بوحها:
أيّها الورد النبيل
أنا في تيهٍ وزمني
أنا في مدّ النهاية،
وغيري في دلع البداية
آهٍ ما أنا ذاك الشاطئ العابر
ولا ذلك البحر الداكن
أنا إنسانُ الحكايات
أنا روح الكلمات
أنا شاطيء الحيوات
ويتابع من غير تردّد: من يقرأ الحاضر بِعَجَرِهِ وَبَجَرِهِ ويتأمّله بعين باصرة ويتابعُ تفاصيلَه اليوميّة وانعكاساتِه المباشرة وغير المباشرة، يدرك أننا امام معانٍ تجفّ وأفكار تنضب ومبادئ ترحل وأعراف تسافر وعادات تقلع، وإمام هذا الواقع المرّ : ما جدوى الكتابة ؟ حين تعرف أنّها تهدف إلى أمرين؛ أولهما تطهير الواقع من العفن والرحيل به إلى الأحسن والأفضل، وثانيهما تفريغ النفس من ضغوطاتها وإحباطاتها، وحين تدرك أنك تكتب لمن لا يقرأ! ولمن لا يؤثر فيه المدفع! عندها تلعن الظلام وفيتامين واو، وتجد أنّ كلّ أساليب الكتابة وسقوفها بلا فائدة؛ لأنك ستكون المغرّد الوحيد في عالم تتقاذفه نرجسيّات المنافع والمصالح، ويتحكّم فيه أصحاب الياقات الجديدة الذين لا يعرفون أنّ ياقاتهم ليست في مكانها، وأنهم بالكاد يفقهون كنهها؛ ليس لشيء إلا لأنهم استحوذوا عليها بطرائق غير شرعيّة، ولن تكون الكتابة ذات جدوى إذا عرفت أنّ التافه يتسنّم المكان الذي لا يستحقّ؟ ويحوز من المكاسب على ما لا يستأهل! تعالوا لنرى ماذا حلّ بمؤسساتنا ووزارتنا وجامعتنا، وأين كنّا وأين أصبحنا، نحن أمام غرائب وخرائب وعجائب، فمن ينقذ الحروف من ثقلها وغربتها؟ ومن ينقذ الناس من لا مبالاتهم ؟ ومن يعيد للزمن الجميل وجهه الأصيل؟ ومن يُرجع للبراءة فطرتها؟ وللمؤسسات هيبتها؟ وللإنسان إنسانيته؟ ما أكثرَ الأفكار في زمن اللامبالاة! وما أكثر الأسئلة في زمن الاستهتار! نعم، نحن أمام كارثة لا تُحترم فيها الكفايات، ولا يؤخذ فيها بالنتائج التي تصبّ في ضياع الصحيح وفقدان الأمل، نحن في مجتمع الكراهية الجديد الذي يفقد فيه المرء أبسط حقوقه، وحين يطالبُ البسطاء ُبحقوقهم تنهضُ الوحوشُ من أوكارها تجمعُ أعمارها المنتهية وتضغط بأحابيلها بكلّ الوسائل لنيل قهر المستحيل.
لكن، وعلى الرّغم من كلّ ذلك لا تيأسوا؛ فقراءة التاريخ تعلّم الإنسان أنْ لا مستحيل، وتجعله يدرك أنّ الصغار إلى زوال، وأنّ الجدّ والعمل الدؤوب هو الذي يبقى، وأن الفاشل والمدلّس والمنافق حتمًا سائرون إلى الجحيم، وأنّ الظلام لا بدّ سيمّحي، وأنه:
ستبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتيكَ بالأخبارِ مَنْ لم تُزَوِّدِ
ولا انسى وأنا اكتبُ عن الصغار ان أوجه أجمل العبارات لاحبتِنا صغار السن فهم بلسمُ الحياة ورونقها الجميل.
"الرأي"
mohamadq2002@yahoo.com