مثلما زحف المستوطنون، الى الأرض المحتلة، ومعهم جيشهم المدجج بالسلاح، وأقاموا البؤر الاستيطانية، بجوار القرى والأحياء السكنية الفلسطينية، التي لا توجد فيها قطعة سلاح واحدة، ثم اختالوا وعربدوا، وتصرفوا كأنهم أبطال طلائعيين، يستعيدون أمجاد ملوك بني إسرائيل، الذين أقاموا مملكات قصيرة العُمر، في جيوب فلسطينية تعرضت لهجرات عابرة؛ فإن هؤلاء المستوطنين أنفسهم، صدقوا أنهم باهرون وأقوياء، بحد ذاتهم، وأن أمريكا نفسها، ليست جديرة إلا بالتعبير عن إعجابها بهم، ولا يجوز أن يكاشفها أي رئيس وزراء إسرائيلي ينوي الانسحاب, أو إعادة الانتشار كما فعل شارون في غزة عم 2005م، بأية خطة، قبل أن يعرض الأمر عليهم.
يمتشقون السلاح، في المستوطنات، بملابس المنهمكين في الحرب, وكأنهم هزموا واستقووا على جيوش كبيرة تقاتلهم, ينظرون الى القرى الفلسطينية، والى الناس أصحاب الأرض، من حولهم، باعتبارهم العدو، الذي أثاروا إعجاب الدنيا، عندما ألحقوا به الهزيمة. ولا تراودهم فكرة أنهم مجرد جبناء، متطفلين، يستقوون بجيش كبير، على شعب أعزل، ويقتلون أطفالاً، ويخنقون حياة شعب، لا يطمح الى أكثر من الحياة والاستقلال، على أرضه وأرض أجداده!
هؤلاء يتناسون أنهم استمدوا القوة، لممارسة لصوصيتهم وزعرانتهم، من جيش نظامي قوي، ساندهم للعربدة على قرى وديعة، وعلى جيل من الشباب الذين لم يدخلوا معسكرات التدريب، ولم يحفروا خندقاً للقتال، ولم يمتلكوا مدفعاً ولا دبابة، ولا طائرة قتال. فالتشوّه النفسي وحده، هو الذي أمدهم بالشعور بأنهم انتصروا بشكل باهر، في معركة مريرة. هو التشوّه الذي يجعلهم، يهاجمون رابين وشارون على حد سواء في زمنين منفصلين، مع أن الأول كان له رؤيته للسلام, فيما الثاني كان يمثل مشروعهم ويراهن عليه، ويجعلهم يقولون له إن عرض خطة الانسحاب من غزة قبل ثلاث سنوات مثلا على الأمريكيين، قبل عرضها على مجلس حكومة المستوطنين، لا يجوز. وقبل ذلك, كانت عملية السلام تغتال برصاصة مستوطن متشنجة, ونافية للآخر, صاحب مشروع السلام الإسرائيلي, قبل أربعة عشر عاما, حينما أقدم المتطرف يغال عامير على اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك, يتسحاق رابين, في تشرين الثاني من عام 1994م.
فسيكولوجية المستوطن، مريضة وخطرة، تُملي عليه سياسة حمقاء، شديدة السفالة والغباء, لأنه كان يعترض على إخلاء غزة، ويرى أن الصحيح، هو أن تبقى المستوطنات، في عمق ذاك الشريط الساحلي، الذي لا يكفي السكان، لدفن موتاهم أو ضخ مجاريهم، كما يرى بأن الصحيح، هو أن توضع الأسيجة، والجداران، في الضفة الغربية, للفصل بين المدرسة والتلامذة، وبين المزارعين والحقول، وبين المرأة الحامل في شهرها التاسع، ومستشفى الولادة، لكي يبقى هذا المستوطن، آمناً ومستريحاً، يصول ويجول ببندقيته، كأنه محارب شرس، ومثير للإعجاب، أنهى لتوّه الانتصار في معركة، لم تكن فيها موازين القوى لصالحه، ولم يكن لينتصر أحدٌ، فيها، سواه. ومن المفارقات، أن بعض هؤلاء، ممن يعلنون أنهم متدينون، يعارضون الانخراط في الجيش، في الوقت الذي يتوافرون فيه على إنتاج أسباب الحرب. ينشدون السلام الشخصي، بعيداً عن الجيش، لكي لا يموتوا، ويريدون حمل البنادق، لكي يقتلوا "الأغيار" الفلسطينيين. وبدل التسوية، يريدون فرض الأمر الواقع، بقوة الجيش الذي يحرّمون على أنفسهم، الانخراط فيه!
نفسية معتوهة، ترى نفسها أكثر ذكاء وشجاعة، من رواد الاستيطان الأوائل، وأبعد نظراً من دافيد بن غوريون وغولدا مائيلا، وسائر الذين حكموا قبل العام 1977. وتريد هذه النفسية، من تسيبي ليفني الآن أن تضبط لغتها وخطواتها، مع لغتهم وخطاباتهم، مئة في المئة، وإلا فالعقاب لها, والسقوط الذريع في انتخابات قادمة, عاجلة مبكرة أو آجلة عادية!
إن هذا المستوطن المعتوه، المفعم عنجهيةً، والذي لا يرى الحقائق من حوله، هو الذي دفع بالقيادة الإسرائيلية العنصرية الى بناء جدار الفصل العنصري، بهذا المسار المجنون، الذي لن تُكتب له حياة مديدة. بل إن هذا المستوطن، هو ـ بالضبط ـ المطلوب للراغبين في إدامة أمد الصراع، وتعطيل التسوية، وتبديد الفرص لطي ملف الصراع المسلح. إنه اللازم لفضح سياسة الدولة، التي ولدت بالبطش وبالكذب، وبالتآمر الاستعماري, وهو ضمانة استمرار فتح ملف هذه الدولة، ذات القوة الغاشمة، لمقاومتها. فالمستوطن المعتوه، هو اللازم للحالمين منّا، ممن لا يرغبون في التسوية، أو في وقف مسار الصراع المسلح، لأنه (المستوطن المعتوه) يبرهن على لا جدوى الكلام عن الحل، وهو ما اقتضى من برلمانيي ونواب نابلس قبل أسبوع, إلا الإعلان عن عرض قضية اعتداءات المستوطنين على المواطنين الفلسطينيين في المدينة وعموم الضفة, على اتحاد البرلمانات العربية والدولية.
إن التطفل الاستيطاني على ما تبقى من الأرض, المتفق على أنها الحد الأدنى, التي يجب أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية, يتلاقى كليا مع تحذيرات جلالة الملك عبدالله بن الحسين المتعاقبة, من خطورة استمرار الاستيطان والتهويد, بصفته نقيضا للسلام, وهو ما يقتضي وقفة عربية جادة, تلتقط هذه التحذيرات وتوظفها في مكانها الصحيح, في ظل تزايد العطاءات والمناقصات الإنشائية, للبناء والتوسع الاستيطاني في الأراضي المصادرة في الضفة الغربية ومحيط القدس تحديدا. على أن تكون القاعدة, أن لا سلام في المنطقة دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة, وأن لا دولة فلسطينية, دون أرض سيادية متواصلة ومترابطة, تقام عليها الدولة, ولا أرض سيادية مع الاستيطان, ليبدو الحديث واقعا أكبر من شعار, مفاده, أن السلام والاستيطان ضدان لا يلتقيان.