سكّة حديد الحجاز .. إسرائيلية
امجد ناصر
24-10-2016 12:57 PM
أثار، في نفسي، خبر تشغيل إسرائيل سكّة حديد الحجاز، الفرع الفلسطيني، الهاجعة تحت ثقل الهجران منذ أكثر من قرن، الذكرى والنّجوى معاً.. مع أن الذكرى تنفع المؤمنين، والنجوى من الشيطان!
الأمر يتعلّق بي شخصياً. لا سياسة فيه، ولا من يحزنون. على الرغم من وقوع هذا الخبر في قلب السياسة، فلا تمتد ذاكرة الاحتلال إلى تلك الأيام التي قرّر فيها العثمانيون شقّ سكّة حديدٍ تربط بين عاصمتهم من جهة والمدينة ومكة من جهة أخرى، بمعونةٍ فنيةٍ (وقيل مالية) ألمانية. حدث ذلك عام 1900- 1908. لا يملك أحدٌ من الذين يسمّون اليوم "آباء إسرائيل" ذاكرة جدّي الذي توفي عن نحو تسعين عاماً، وجدتي التي توفيت، بعده، عن نحو قرن. نحن أصحاب الذكرى. ونحن الذين رأينا الجنود العثمانيين، ومواطني بلاد الشام، مع القادمين حديثاً من القوقاز بقبعاتٍ وأزياء غريبة وجواميس أدهشت الأهلين، ليسكنوا بالقرب من هذه السّكة، فهم كانوا موضع ثقة العثمانيين الذين جاؤوا بهم من جبالهم المعمَّمة بالثلوج إلى أراضٍ قاحلة تدفع إلى البكاء. هذا، على الأقل، ما حدث في القسم الأردني من الخط الحجازي (.. ولم يكن هناك يومها كيانٌ أردني رسمي). قوقازيو الأردن أقدم عهداً في المنطقة من فكرة إسرائيل نفسها، وهم الذين صنعوا حياةً بالقرب من سكّة حديد الحجاز، ولمّا رآهم البدو المتنقلون من منطقة إلى أخرى يمهّدون الأرض، ويزرعون ويحصدون، ويطحنون بمطاحن جاؤوا بها، مع جواميسهم العجيبة، من بلادهم البعيدة اقتربوا منهم.. وأقاموا إلى جانبهم. هذا ما رأيته، وأنا أدبّ على الأرض في "جنّاعة"، جارة السكّة، التي كان يرى سكانها القطار في أيام معلومةٍ يمرّ بجانبها، صافراً، ليدفع أبناءها الشياطين (وكنت منهم) عن السكّة قليلاً. كان سائق القطار يعرف أننا نضع قطع حديد على السكة، لتصنع منها عجلات قطاره أدوات حادة نستخدمها في معارك الشوارع.
وقعت تلك السكَّة في قلب سياسة المنطقة. فعليها، وعلى جوانبها، جرت معارك للسيطرة على المكان بين الجنود العثمانيين والثائرين على الباب العالي. ووقعت في قلب المشاعر الدينية: الحج. والتجارة. ونقل المسافرين من طرفٍ في السلطنة إلى طرفٍ آخر. كما عرفت مئات الذين كانوا يتسللون ليلاً للحفر في مواضع قريبة منها، بحثاً عن الذهب "العصملّي" الذي قيل إن العسكر العثمانيين خبأوه في أمكنةٍ بعينها في أثناء انسحابهم من بلاد الشام على وقع رصاص "الثورة العربية الكبرى". وعندما يظهر اليسار والغنى، على أحد الأهلين، فجأةً، كانوا يعزونه إلى أحد تلك الكنوز العثمانية.
كان أناسٌ من عمر جدي ينتقلون بالقطار الحجازي من دمشق إلى حيفا. ومن عمّان إلى المدينة. ومن بيروت إلى القنطرة في مصر. ومن يافا إلى مرج بني عامر. ظلت تلك الشبكة تعمل إلى يوم وقوع النكبة. وكان اسمها "خطوط سكة حديد فلسطين". كانت بريطانيةً صحيح، بيد أنها باسم البلاد نفسها، حتى وإن كانت تحت "الانتداب".
أخيراً.. تقفز الى ذهني هذه الذكرى: فجأة، خلَت "جنّاعة" من سكانها. وبما أن أمي لم تكن من النسوة اللواتي يغادرن بيوتهن، أو يتبادلن الحديث من النوافذ، لم نعرف بتقاطر الأهلين إلى الهضبة المجاورة للسكّة. لا أحد يعرف من قال إن الحكومة ستسمح لسكان الحيّ بوضع أيديهم على تلك الأرض الخلاء والتوسّع في البناء شرقاً.
وقعت حربٌ حقيقية بين الجيران، المتعايشين في سلامٍ أسفل الهضبة، وهم يحدِّدون قطع الأرض التي استولوا عليها بعد إحاطتها بالحجارة. صارت الحجارة تتداخل، أو تتطاير، تتّسع الأرض المحاطة بها هنا، وتضيق هناك، حسب قوة أفراد العائلة المندفعة بنهمٍ مسعورٍ لتملك أكبر قدر ممكن من الأرض الأميرية. التحقت عائلتي بالمندفعين إلى الهضبة، متجاوزين السكّة. و"وضعنا" أيدينا على قطعة أرضٍ أحطناها بالحجارة. لم تتساهل الحكومة مع هذا الغزو الجرادي، ولم تكن الشائعة التي أشعلت فتيل هذه الحرب العقارية بين الجيران صحيحة.
العربي الجديد.