كانت وسائل الإعلام الموالية لإيران وأذنابها تصرّ في الأسبوع الماضي على أن "الرياض تستعجل الهدنة وأنصار الله تتريث"، مشيرة إلى الحوثيين "يتعاطون مع مبادرة الهدنة بشيء من الحذر وعدم الثقة، ويتعاملون معها على أنها تمَّت من طرف واحد، ولا يعطونها صيغة الاتّفاق الملزم". ومثل هذه الأخبار لم تكن إلا محاولة يائسة لإظهار المملكة العربية السعودية ودول التحالف بمظهر الطرف الأضعف الذي يستجدي إيقاف الحرب، فيما الحوثيون هم الأعلى يداً والأرجح كفة. وتصدير هذه الصورة ليس إلا محاولة للتماسك وترميم المعنويات المنهارة للحوثيين وأنصارهم بعد أن أصبح معقلهم في صعدة قاب قوسين أو أدنى من السقوط في الأيام الأخيرة.
كانت هدنة الـ72 ساعة، محاولة من جانب التحالف العربي لاستعادة مسار التسوية السياسية وتقصير أمد الحرب بآلامها وضحاياها وما يترتب عليها بالضرورة من مآسٍ. وكان مأمولاً أن يجري تمديد الهدنة وفتح الباب أمام استئناف المفاوضات، وإتاحة فرصة أطول لوصول الإمدادات الغذائية والطبية والمساعدات الإنسانية إلى مختلف مناطق اليمن، وتخفيف معاناة اليمنيين الذين يدفعون ثمناً باهظاً بسبب أطماع الحوثيين وحلفائهم، وتمردهم على السلطات الشرعية، وسعيهم إلى ابتلاع الدولة بمزيج من التآمر والاعتماد على التحالفات الانتهازية وقوة السلاح، وإلغاء القوى السياسية والمجتمعية كافة لصالح مشروع مفروض من إيران، لا يُحسب فيه حساب للمصلحة الوطنية اليمنية.
وبالعودة إلى ما نشرته تلك الوسائل المغرضة، يبدو جلياً أن خرق الهدنة وتكرار الاعتداءات كان أمراً مُبيتاً. وقد سجلت قوات التحالف العربي في اليوم الأول للهدنة 43 خرقاً من جانب الحوثيين وقوات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح على الحدود اليمنية السعودية، تضمنت إطلاق صواريخ ومقذوفات ورماية مباشرة وأعمال قنص، وأصيب مدنيون سعوديون من جراء ذلك، فيما بلغت الخروقات داخل الأراضي اليمينة في اليوم الأول 238 خرقاً. واستمر ذلك في اليوم الثاني للهدنة أيضاً. واستدعت الخروقات المتكررة ردوداً عسكرية من جانب قوات التحالف، ومع ذلك كان هناك محاولات لإبقاء الهدنة قائمة، وترك الأبواب مفتوحة أمام الحل السياسي الذي لا بد من الوقوف في محطته في نهاية الأمر.
المفارقة أن الطرف الذي يعلن أن الهدنة لا تعنيه، وأنها غير ملزمة له، يجند أبواقاً على امتداد العالم العربي تندد بما يسميه "العدوان" وتطالب ليل نهار بإيقافه. ويتاجر الحوثيون بصور للضحايا مشكوك في حقيقتها، ويقيمون مجالس للتفجع واللطم وذرف الدموع الكاذبة. ولا يكترث الحوثيون كثيراً للتناقض بين الصورتين، فهم يصدِّرون الأولى لأنصارهم ومؤيديهم ليُظهروا المنعة والتماسك، ويصدرون الثانية للعالم من أجل تكريس صورة الضحية واصطناع المظلومية التي يتسللون من خلفها لتحقيق أهدافهم، أو بالأحرى أهداف القوى التي تُحرِّكهم من وراء ستار. ويراهن الحوثيون على الذاكرة للضعيفة للعالم، ويعتمدون على الضجيج الذي يُحدثونه في محاولتهم إخفاء نفاقهم السياسي الرخيص.
ليس موقف الحوثيين في إفشال مساعي الحلول السياسية ووضع العقبات أمام المسارات التفاوضية مُستغرباً، فهم يُدركون أنه لا مشروع لهم سوى الفوضى، وليس لديهم القدرة على تحمُّل المسؤوليات المُفترضة في قوة سياسية سعت إلى إحكام سيطرتها على بلد كاليمن بكل تعقيداته ومشكلاته. وليس لدى الحوثيين من الكفاءات أو الخبرات أو القدرات ما يُمكِّنهم من إدارة شؤون السياسة والاقتصاد والأمن وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية للشعب اليمني، وهم أول من يُدرك ذلك. ولا يمكن أن نفترض أن ذلك كان غائباً عنهم وهم يسعون إلى السيطرة عسكرياً على اليمن وقضمه بسرعة قطعة وراء قطعة بمزيج من الانتهازية والعنف، ولم تكن طهران التي تستخدمهم كمخلب قط لأطماعها تريد من تحريكهم سوى خلق منطقة ملتهبة ومضطربة على حدود دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
الحوثيون يعرفون أنهم لن يكونوا أحسن حالاً من "الإخوان المسلمين" الذين سقطوا سقوطاً ذريعاً في اختبار المسؤولية حينما وصلوا إلى الحكم في بلدان عربية، إذ انكشف خواؤهم وعجزهم وتمخضت خطاباتهم طيلة عقود عن اضطراب وفشل قادا إلى انهيار مًدوٍّ لمشروعهم. ولذا فإن إطالة أمد الحرب هي سبيلهم الوحيد للاستمرار ومواصلة مخطط الفوضى، ولن يعدموا وسيلة لإنهاء أي هدنة مُقترحة، وإذا اضطروا إلى خوض المفاوضات فإنهم سيمارسون التسويف والمماطلة وإهدار الوقت ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وسيواصلون خداع المبعوثين الدوليين والقوى العالمية بدور المستضعف الذي أتقنوه خلال الفترة الماضية.
الغريب أن مبعوثي الأمم المتحدة يتجاهلون أو يتناسون أمراً أساسياً فيما يخص الأزمة اليمنية، وهو أن قوات التحالف العربي لدعم الشرعية إنما تؤدي مهامها في اليمن مستندة إلى قرارات الشرعية الدولية، وأن هذه القرارات لا يجب أن تكون محل أخذ وردٍّ لدى مقاربة الوضع اليمني، وهي سقوف لا مجال للتنازل عنها. ويلزم أن يُغلق المسؤولون الدوليون الباب تماماً أمام محاولات الحوثيين استدراجهم إلى البدء من نقطة الصفر، فالمطلوب هو تنفيذ القرارات الدولية باعتبار ذلك مدخلاً إلى التفاوض حول ترتيب الأوضاع اليمنية وحدود الأدوار التي يمكن للقوى السياسية المختلفة أن تلعبها في اليمن خلال المرحلة المقبلة.
إن التحالف العربي، برغم حرصه على تهيئة الأجواء المناسبة للسلام، لن يتردد في استكمال واجباته وعملياته إذا واصل الحوثيون أعمالهم العدوانية. ونتيجة الحرب معلومة سلفاً، وليس لها إلا نهاية واحدة حتمية هي اندحار الحوثيين واستسلامهم. وقد تراجعت باطراد المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، وخطوط دفاعهم تتآكل يوماً بعد يوم، وتحالفهم مع علي عبدالله صالح أقرب إلى الانهيار في أي لحظة، وكلٌّ منهما يضمر العداء للآخر ويتوقع منه الغدر، وحال كهذه لا يمكن أن تستمر طويلاً.
إن الوقائع التي كشفت عنها الهدنة الحالية تحدد بما لا يدع مجالاً للشك الطرف الذي لا يريد للحرب أن تنتهي، ويمكن للدبلوماسية الخليجية النشطة أن تكثف جهودها في الوقت الحالي للتأكيد على هذه الحقيقة وترسيخها لدى مسؤولي الأمم المتحدة المعنيين بالأزمة، وكذلك لدى القوى الإقليمية والدولية التي أبدت اهتماماً باليمن خلال الفترة الأخيرة. وبالقدر نفسه يجب أن تُبذل جهود إعلامية مكثفة في أوساط اليمنيين لتوضيح الحقائق لهم وإطْلاعهم على أسباب انهيار محاولات التوصل إلى حل يُنهي المعاناة التي يتعرضون لها، ومسؤولية الحوثيين عن ذلك.
لقد أثبتت دول التحالف العربي أنها تمتلك الخيارات كاملة في حربها ضد الحوثيين، وهي إذ تتبنى خيار السلام، وتعمل تحت المظلة الدولية، جاهزة تماماً لإجبار الحوثيين بالقوة على الانصياع للشرعية الدولية التي رفضوا الانصياع لها طوعاً. وبعد ذلك ستكون دول الخليج العربي على موعد مع مهمة أخرى، هي مهمة إعادة إعمار اليمن وإزالة آثار العدوان الحوثي، ومساعدة السلطة الشرعية على بناء مؤسسات الدولة ووضعها على أول طريق التنمية، لأن الشعب اليمني الأصيل يستحق ذلك.
الحياة