حديث الانتخابات «4» مجتمع بلا معايير وبلا مقاييس
بلال حسن التل
19-10-2016 01:11 AM
قلنا في مقال سابق إن مجتمعنا يعاني من خلل واضح في آليات فرز القيادات، وأن لهذا الخلل نتائج وخيمة، خاصة وأنه خلل شمل القطاعين: العام والأهلي، فبالإضافة إلى ما تحدثنا عنه في المقال السابق، عن تخريب كل من دور العشيرة والحزب والمؤسسة الرسمية في فرز القيادات في مختلف المجالات، فإن الخلل امتد إلى معظم المؤسسات الأهلية، من جمعيات ونقابات وغرف واتحادات، ولعل من أهم أسباب الخلل الذي أصاب المؤسسات الأهلية، تكاثرها السرطاني، بسبب كثرة الانشقاقات التي أصابت بناها التنظيمية، وهي الانشقاقات التي كثيراً ما نجمت عن عدم قبولنا بنتائج الصناديق، ورفضنا لهذه النتائج، وهو الرفض الذي كثيراً ما دفع من لم تأت هذه النتائج على هواهم إلى الانشقاق عن مؤسساتهم، حدث هذا في الأحزاب، التي تكاثرت في بلدنا حتى فاقت السبعين، وهو عدد لا يتلاءم مع حجم بلدنا وعدد سكانه وطبيعة التوجهات الفكرية والسياسية السائدة فيه، ولعل هذا سر من أسرار تشابه أدبيات الكثير من الأحزاب حد التطابق، مما يشير إلى أن الأمر ليس أمر اختلاف في الرؤى والأهداف والأولويات وآليات العمل، بمقدار ما هو احتكام إلى الأهواء الشخصية وترجيح المصلحة الفردية على المصلحة العامة، مثلما يؤشر إلى عدم ديمقراطيتنا كشعوب وتنظيمات أهلية.
ومثل الأحزاب كذلك الجمعيات والمنتديات بأنواعها وتصنيفاتها المختلفة، والتي دخلت في بلدنا خانة الآلآف من حيث العدد، كما تشير الأرقام الرسمية لدى جهات الترخيص، وخطر هذا التنامي السرطاني لمؤسسات المجتمع المدني أنه يشتت الإمكانيات، ويشرذم الجهود، ويجعلها متناحرة أحياناً ومكرورة أحياناً أخرى، وغير مؤثرة في كل الأحيان، بل ومحل سخرية باعتبار أن أعضاء بعضها لا يزيدون عن حمولة «بكب» كما يتندر الأردنيون، ومؤسسات بمثل هذا الخور والضعف، هي مؤسسات غير قادرة على فرز قيادات، وبالضرورة غير قادرة على إحداث التغيير المنشود في مجتمعها.
إن من أبرز العواقب الناتجة عن الخلل، الذي أصاب آليات فرز القيادات في مجتمعنا، غياب المعايير الواضحة، التي نحتكم إليها في اختيار من يتولى المواقع القيادية في كل المجالات، ففي كل عهد من العهود تواضع الناس على مواصفات شيوخ العشائر وأخلاقهم وصفاتهم وأدوارهم، مثلما كان للقيادات الحزبية شروطها ومواصفاتها ومراحلها في العمل الحزبي، وفي مستوياتها الفكرية ووعيها السياسي، المقرون بنضالها السياسي، وهو الأمر الذي ينسحب أيضا على قادة سائر المؤسسات الأهلية، الذين مازالت أسماء الكثيرين منهم محفورة بذاكرة الأردنيين، مقرونة بإنجازاتهم على أرض الواقع، وفي حياة الناس: مدارس ومستشفيات، ومؤسسات اقتصادية عامة، أنشأتها المؤسسات الأهلية في القطاعين الخاص والأهلي، مما نفتقر إلى مثله في مجتمعنا هذه الأيام.
لقد أدى غياب المعايير، التي يتوافق عليها المجتمع لفرز قياداته الاجتماعية والسياسية، بما فيها البرلمانية، التي يستطيع من خلالها الناس معرفة حجم من يتقدم طالبا منهم أصواتهم في الانتخابات أية انتخابات: نيابية، بلدية، نقابية، جمعيات....الخ إلى التجرؤ على المواقع العامة ففي السابق لم يكن يتقدم لطلب صوت الناس إلا نفر، تسبقهم إلى الناس سيرتهم وسجلهم في الإنجاز الاجتماعي والسياسي، وهما السيرة والسجل اللذان كانا يصنعان لصاحبهما مكانة تؤهله للتقدم لطلب ثقة الناس، بل وفي كثير من الأحيان كان الناس يسعون إلى أصحاب المكانة والسيرة والسجل ليرشح نفسه للبلدية والبرلمان والنقابة والجمعية. وهكذا فقد أدى غياب المعايير إلى تجرؤ الكثير من «السفلة والفعلة» الذين أشرنا إليهم في مقال سابق على خوض الانتخابات البرلمانية، مستغلين الحاجة إلى تلبية اشتراطات قانون الانتخابات في تشكيل القوائم، التي تحولت في انتخابات مجلس النواب الثامن عشر إلى مجرد وسيلة سفر « حافلة أو سرفيس أو بكب» وإلى مجرد قاعات ترانزيت، لا يربط الجالسين فيها أكثر من عنصر الزمن المؤقت، ثم يذهب كل في طريق. حدث ذلك بفعل استبدال المعايير والمقاييس الحقيقية بالمرايا الخادعة التي توهم البعض بمقايس غير حقيقية لمكانته وقدراته، وهنا لابد من التوقف عند سبب ونتيجة وخيمة من نتائج غياب المعايير والمقاييس في الوقت نفسه وهي تضخم «الأنا»عند غالبيتنا، وهي «الأنا» التي خدعتنا عن حقيقة أحجامنا، وحالت بيننا وبين العمل الجماعي من جهة أخرى، فتحول التنافس في انتخاباتنا إلى تنافس بين أفراد، وليس بين قوى أو برامج أو تكتلات أو تيارات، ولهذا النوع من التنافس مخاطر كثيرة على مجتمعنا، أقلها روح البغضاء التي سادت بين الكثيرين من الذين ظنوا هم وذووهم أن الآخرين خدعوهم وتخلوا عنهم، متناسين أنهم هم من خدعوا أنفسهم، وهو أمر ما كان ليحدث لو أن الانتخابات في بلادنا تتم على أساس الكتل والتيارات والبرامج فلا يشعر أحد بأنه أصيب بهزيمة شخصية تولد في نفسه حقداً على مجتمعه كما نلمس لدى الكثيرين ممن لم يحالفهم الحظ في الانتخابات الأخيرة.
الراي