مذ تفتحت عيناي على هذه الدنيا و مذ بدأت اعي تقلباتها و متغيراتها و اميز غثها من سمينها وجدت ضالتي في صديق صدوق لم يخذلني ابدا... هذا الصديق الذي منحني من معارف هذه الدنيا و ثقافة اممها و سير قادتها ورجالاتها و مفكريها الكثير الكثير .... انه الكتاب الذي لم يفارقني طوال سنين مضت في حلي و ترحالي فأينما ذهبت كان معي و الى جانبي .
كان الالم و الحزن يتملكني في سني عمري الاولى اذا ما سمعت بكتاب قيم و لم استطع اقتناؤه او قراءته و كنت اسعى جاهدا لامتلاكه و حتى اتمكن من ذلك واثناء طفولتي كنت اجمع المال من مصروفي اليومي لشراء الكتب و اقتنائها و النهل مما تكتنزه من ذخيرة معرفية و ثقافية تغني و تفيد و تساعد على صقل شخصية المرء و تزيد من مخزونه الثقافي .
و مما اذكر انني في مرات عديدة كنت امضي ليلي الطويل في قراءة كتاب جذبني و استهواني حتى يبزغ فجر يوم جديد يذكرني بأنه يجب علي الاستعداد لمحاضرتي الصباحية في الجامعة الاردنية في الساعة الثامنة من صباح ذاك اليوم .
و الحديث عن المحاضرات و الجامعة يذكرني بالأيام الاولى لي في مكتبة الجامعة الاردنية في مرحلة البكالوريوس هذه المكتبة العتيدة العريقة اذ كنت امضي جل وقت فراغي فيها انهل من كتبها و مراجعها و دورياتها دون ان يضطرني ذلك لانفاق المزيد من المال فهذه الثروة المعرفية و الثقافية مفتوحة امامي بلا مقابل فكيف لي ان افوت هذه الفرصة الذهبية كنت استمتع بانتقاء الكتب عن رفوفها و انا اهمس في اذني احد الاصدقاء حول قيمة كتاب وقع بين يداي او عندما ارى في ردهاتها بعض ممن قرأت لهم او عنهم من كتاب و شعراء هذا الوطن و هم يجولون في اركانها فاشعر بسعادة غامرة بمجرد وقوع نظري على احدهم .
ولا يمكن ان انسى تلك المرة التي انفقت فيها قرابة الخمسمائة دينار لشراء و اقتناء مجموعة من الكتب من معرض عمان الدولي للكتاب كنت في حينها اعمل و اعكف على دراسة الماجستير في الجامعة الاردنية فجن جنون والدتي التي اصبحت تضيق ذرعا بكل هذه الكتب و الاوراق لا بل و حتى قصاصات الورق التي تستوطن في المنزل هنا و هناك فلا يكاد يخلو مكان من كتاب او ديوان شعر او رواية .. لم تكن والدتي الحبيبة تدرك مدى تعلقي بالكتاب و الثقافة و المعلومة و لم تكن (حماها الله ) تشعر بمدى الرغبة الجامحة لدي في سبر اغوار العلم و المعرفة و قراءة ثقافات المجتمعات و تاريخها و التعرف الى ابرز قادتها و مفكريها و موروثات هذه الامم وتراثها و تقاليدها و ابرز شعرائها و كتابها و مثقفيها .
ان صداقة الكتاب رحلة جميلة و مفيدة فهي تضيف اليك و تعطيك من تجارب الاخرين و تبني مداميكا في شخصيتك و تعجل في بلوغك سنــا لم تبلغه بعد و تهذبك و تزيدك رشدا و عقلانيـــة و رزانة قد يفتقدها كثير ممن تجاوزوك في العمر , كما انها تساعدك على مواجهة الازمات و المشكلات اليومية و التحديات الاجتماعية و تعطيك دافعية للعمل و العطاء و الانجاز و التقدم رغم رياح الحياة العكسية التي تجذبك و تدفع بك الى الخلف و تمنحك الفرصة لرؤية
الحياة من زوايا قد تغيب عن بال الكثيرين من حولك فالمعلومة تلقي الضوء على نقاط كانت معتمة بالنسبة لك قبل ان تعرفها .
اقول ما قلت و قد اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي من حولنا كل صغير و كبير و استنزفت جل وقتنا في متابعتها وإضاعة اوقاتنا عليها _ و انا هنا لست ضدها و لكنني لست مع سيطرتها على عقولنا وحياتنا بهذا الشكل _ فلكل عصر ادواته اما ان تنزعنا هذه الادوات من ثقافتنا و تاريخنا و نصبح اسرى لها فالأمر مرفوض بكليته , فما احوجنا اليوم لإعادة انتاج جيل مرتبط بثقافته و تقاليده و موروثه الاجتماعي الجميل المبني على جملة من القيم و المبادىء تمنعنا من كثير من الممارسات اليومية التي كنا في يوم من الايام نتغنى بها و اصبحت جزءا من التاريخ و الماضي الجميل الذي بدأنا بالترحم عليه .
في الختام اقول اننا مطالبين افرادا و مؤسسات بإعادة الهيبة للكتاب عبر تضافر كل الجهود و خلق بيئة خصبة للقراءة وصولا لخلق جيل مرتبط بالكتاب و المعرفة و الثقافة ... ثقافة تعيد ابناؤنا الى احضان امتهم و جذورها و عاداتها و تقاليدها و منظومتها القيمية التي انهارت بفعل ممارساتنا و سياساتنا التي انتجت جيلا فارغا مرتبطا بالغرب و ادواته و مغرياته فاستيقظنا على انفسنا مسلوبي الهوية مجهلين و نسير في مؤخرة ركب الامم . نعاني ما نعاني من مشاكل اجتماعية اقلها الجهل المتفشي بين المتعلمين و حملة الشهادات الذين و للأسف الشديد لا يقوون على كتابة سطر بلغة الضاد دون اخطاء املائية و هو امر يثير في الحزن و الحيرة معا و اخطر هذه الالمشاكل و التحديات افة تعاطي المخدرات على انواعها و اشكالها و ترويجها و المتاجرة بها.
و على النقيض تماما انتجنا من خلال هذه التخبط المتراكم مع النشىء وعلى مدار عقود خلت جيلا ناقما مظطربا كان بمثابة اللقمة السائغة لمنظري الارهاب و تجار الحروب الذين عبثوا بعقول و افكار و تفكير شبابنا و تمكنوا من جرهم الى مستنقعات التطرف و الغلو فرفع هؤلاء الفتية السلاح في وجه الاخ بدلا من العدو فلو كانوا محصنين بالعلم و المعرفة و الثقافة و من قبل ذلك بوسطية الدين القويم و اعتداله لم وقعوا في براثن هذه الحركات المتطرفة و لما سهل على الآخرين جرهم و التغرير بهم و قذفهم في آتون حروب طاحنة لا ندري ما هو مداها و الى اين ستنتهي .