حسم جلالة الملك في ورقته النقاشية السادسة المعنونة « سيادة القانون أساس الدولة المدنية « الجدل المثار منذ أشهر حول « هوية الدولة الأردنية « ، حسمه جلالته باتجاه أن الدولة الأردنية دولة مدنية أساسها سيادة القانون وتطبيقه على الجميع ، كما حدد جلالته في الورقة معيار المواطنة والولاء وربطهما بالالتزام بالقانون وتطبيقه وهو معيار أخذت به الدول المتقدمة والمتحضرة منذ عقود طويلة وكان عاملا من عوامل تقدمها وازدهارها .
كنت من بين الذين شاركوا في النقاش أو الجدل بشان هوية الدولة الأردنية وكتبت مقالين في هذا الموضوع كان الأول بعنوان « الأردن دولة مدنية وليست دينية « ، والثاني في أعقاب اغتيال الكاتب ناهض حتر وكان عنوانه « .. في حماية الدولة المدنية « وفي المقالين كان التأكيد على أن القانون وتطبيقه ضرورة لبناء الدولة المدنية .
ومن باب التذكير فقد خلصت في مقالي الأول وفي ذروة السخونة خلال سباق الانتخابات البرلمانية والجدل حول هوية الدولة إلى ما نصه ( من هنا نقول أن الدولة الأردنية التي تأسست في عام1921 وتطور نظامها السياسي من إمارة إلى مملكة عام 1946 هي دولة مدنية لا سلطة سياسية لرجال الدين فيها بأي شكل من الأشكال ولذلك فان أية دعوة لإقامة نظام سياسي على أسس دينية هي دعوات ‹ انقلابية ‹ غير دستورية ) وهي القضية التي أشار اليها جلالته بالورقة بقوله ( ولا يمكن أن نسمح لأحد أن يستغل أو يوظف الدين لتحقيق مصالح وأهداف سياسية أو خدمة مصالح فئوية ) .
أما في مقالي الثاني عقب اغتيال حتر فقد أشرت و باستشراف لموقف جلالة الملك من موضوع الدولة المدنية بعد زيارته لبيت العزاء حيث قلت ما نصه ( وفي قراءتي لتلك الزيارة المهمة أنها انحياز ملكي للدم في مواجهة المسدس وآلة القتل، وانحياز كامل من جلالته لمدنية الدولة الأردنية في مواجهة مشروع «الدولة الدينية الأوتوقراطية» التي ينادي بها غلاة التطرف من الداعشيين) .
لم يحسم جلالة الملك هوية الدولة فحسب بل حدد البرنامج والأجندة من اجل تعزيز هذه الدولة وحمايتها عبر تطبيق القانون على الجميع ومحاربة الفساد والمحسوبية والنهوض بالجهاز القضائي باعتبار القضاء هو الفيصل والسلطة المناط بها تطبيق العدالة بين الناس .
إن الأجندة التفصيلية التي تحدث عنها جلالة الملك لتعزيز وحماية مدنية الدولة الأردنية بحاجة لمبادرة واضحة من السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة باستحداث وزارة لحقوق الإنسان تتولى متابعة ملف الدولة المدنية وبخاصة انتهاكات حقوق الإنسان في عموم مرافق الدولة وأجهزتها وفي المجتمع ومؤسساته العامة والخاصة وليكون الوزير العامل في هذه الحكومة جهة ممثلة للذين وقع عليهم الظلم أو الانتهاك لحقوقهم والتواصل المباشر والسريع مع الوزراء المعنيين بتلك الحالات .
إن مقترح وزارة لحقوق الإنسان ليس مقترحا نرجسيا كما قد يراه البعض فبعد الذي قدمه جلالة الملك في ورقته النقاشية من تصور كامل لما يريد للدولة الأردنية ومواطنيها و أجهزتها الرسمية بات ضرورة ماسة خاصة بعدما ثبت عمليا أن الهيئات الرسمية المكلفة بمتابعة الانتهاكات وتجاوز القانون وخرقه في الدولة والمجتمع ليست فاعلة ولا تبذل الجهد المطلوب منها .
وبهذا المفهوم فان الوزير المعني داخل الحكومة بملف حقوق الإنسان ومدنية الدولة لن يكون إضافة عددية بل يجب أن يكون إضافة نوعية تجعله ممثلا لضمير المجتمع داخل السلطة التنفيذية وعينه عليها وليس موظفا تقليديا يغرق بالروتين وتكبله البيروقراطية ، وهناك تجارب عديدة في دول عربية منها البحرين و تونس بعد الثورة ومنها العراق بعد الاحتلال الأميركي واليمن ، وقد أثبتت تلك التجارب أن الوزراء الذين تولوا تلك الوزارة في بلدانهم كانوا قادرين بدرجة جيدة على تنفيذ مهامهم في حماية حقوق الإنسان وتمايزوا عمليا عن زملائهم في الوزارات الأخرى .
وبالمقابل فان البرلمان وبعد هذه الورقة الملكية بحاجة لتفعيل دور لجنة الحريات العامة وحقوق الإنسان من خلال متابعة جدية لشكاوى المواطنين والانتهاكات التي يتعرضون لها وبخاصة دورها في رقابة مراكز التأهيل والسجون بالإضافة إلى دراسة القوانين والأمور والاقتراحات التي تتعلق بالحقوق والحريات العامة بخاصة موضوع التوقيف الإداري خارج سلطة « السلطة القضائية « الذي بات سلاحا بيد السلطة التنفيذية تستخدمه بصورة غير قانونية وبانتقائية .
ورقة جلالة الملك هذه ورقة مفصلية في إطار عملية تطوير وتحديث مسيرتنا السياسية والديمقراطية، ومسيرتنا الوطنية باتجاه تعزيز الدولة على أسس وقيم مدنية حضارية وأسس قانونية راسخة ، ولذا فهي بحاجة منا جميعا لمزيد من الاجتهاد والمبادرة لتسهيل مهمة تطبيق ما جاء فيها .
الراي