أتابع كغيري وبإهتمام خاص , الاوراق النقاشية التي يطرحها جلالة الملك تباعا , وأجد أن الورقة السادسة والصادرة للتو , هي العنوان القيمي الشامل الذي يؤطر مجمل الإصلاح الوطني المنشود . وحيث هي ورقة نقاشية أي مطروحة للنقاش , أستأذن جلالته في مناقشتها على النحو التالي :
عمليا وتاريخيا , تعارف سائر النابهين في هذا العالم , الذين أحدثوا تطورا وأضافوا قيما نوعية مبدعة في حياة البشر , على قياس مدى تقدم الاوطان بفحص مرفقين لا ثالث لهما , كبوصلة تحدد نوع وحجم هذا التقدم .
المرفق الاول هو " التعليم " , والثاني هو " القضاء " , فمتى كان التعليم سليما ومؤهلا لبناء شخصية الفرد على أسس علمية تجعله قادرا على التعلم ذاتيا , ليكون بالتالي , لبنة سليمة منتجة إيجابيا في البناء المتكامل لمجتمعه , كان ذلك أهم وأبرز علامة على ان هذا المجتمع يسير عمليا على الدرب الذي يوصله حتما كل يوم إلى ما هو افضل ! .
ومتى كان القضاء نزيها عادلا في تطبيق القانون وإصدار الأحكام بما يصون الحقوق ويردع بكفاية كل خروج على القانون والنظام العام أيا كان المتسبب , كان ذلك علامة مكملة لسابقتها , على ان هذا المجتمع , مستوف فعلا لمتطلبات التطور الذي يحدث فرقا إيجابيا هائلا في حياة إنسانه .
وعليه , فإن ما يعنيني في هذا المقام هو التعليم تحديدا , ولا شأن لي بالقضاء , والذي ارى فيه كذلك بشكل او بآخر وفي أي مجتمع كان , إفرازا عمليا لمخرجات التعليم إيضا .
صاحب الجلالة : الفرق المفزع بين التعليم في دول العالم الثالث ونحن منها , والتعليم في دول النهوض والإبتكار والإبداع , أن التعليم عندنا لم يؤمن بعد , بأنه وسيلة لبناء ذات قادرة على أن تتعلم هي تلقائيا , ولهذا , فهو تعليم تلقيني مجرد ينتهي مفعوله بإنتهاء إمتحان يفضي إلى شهادة ثم البحث عن وظيفة قد تتوفر وقد لا تتوفر , فيما التعليم عندهم , هو نهج شمولي يبني شخصية مجتمعية مؤهلة للبحث والأستكشاف والملاحظة ومقاربة الإبداع في إمتلاك المعلومة , وبالتالي الأهلية الكاملة للتعلم ذاتيا , وليس إنتظار تلقي التعليم من الآخر كما هو حالنا ! , ولهذا وكتحصيل حاصل , هم منتجون , ونحن سعداء بأننا مجرد مستهلكين لمخرجات عقولهم ! .
التعليم الصحيح القادر على إنتاج الفرد الصحيح " إن جاز التعبير " , هو الطريق السليم لبناء مجتمع يحترم فطريا لا كرها , القانون والنظام العام , مجتمع يؤمن فطريا لا كرها , بالتعددية وبالتشاركية وسيادة القانون , مجتمع يعاند فطريا لا كرها , التطرف والغلو , ويرفض الجهوية والإقليمية والعنصرية الهدامة , ويعشق الحرية المسؤولة ويؤدي الواجب كشرط لإكتساب الحق , وتتجذر في سلوكه قيم الإنتماء وعفة اللسان واليد والفرج وحب الوطن والإخلاص للحياة .
لدينا وزارتان للتعليم , ولدينا أكثر من مجلس ربما معني بشؤون التعليم , لكن التعليم عندنا وبكل صراحة وجب ان لا نداريها , ما زال منحصرا في مربع " محو الأمية " . نحن نقرأ ونكتب وننظر في السياسة وفي الإقتصاد والإجتماع وسائر شؤون الحياة , ولا أحد يجارينا أو يضاهينا في هذا الميدان , ولكني وكغيري , لم اسمع يوما بأننا إبتكرنا شيئا مثلا كما يفعل آخرون في دول الغرب مثلا , وصحيح أننا كنا سباقين إلى تعليم غيرنا , لكنه كذلك تعليم قراءة وكتابة وتلقين ليس إلا .
التعليم تحديدا , هو المصنع الذي ينتج سلعة قيمية راقية هي الإنسان , ومن هنا , فمن يرغب في أن يتحلل من كل أدران التخلف ومنغصات الحياة لينفذ عمليا إلى حياة أفضل وسلوك آدمي أفضل وحاضر افضل ومستقبل افضل , لا حل أمامه , سوى حل واحد , هو إعادة نظر شاملة في مجمل النهج التربوي التعليمي , ورسم أهداف سامية لهذا المرفق تترجمها برامج عملية سامية أيضا , لإنتاج فرد أفضل ومجتمع أفضل بالتالي ! , وليس ذلك بالامر العسير أبدا أبدا ! .
جلالة الملك :
إن مجلسا أعلى دائما ومؤسسيا للتعليم , يضم كفاءات سياسية وإقتصادية وإجتماعية وعلمية وفكرية وتربوية وسواها من كفاءات مختارة بعناية ومعرفة في المجتمع , ويشرف برعاية ملكية سامية , قادر بعون الله , على تصحيح مسارنا كله وفق ما نريد ونتمنى , سياسيا وإجتماعيا وحتى إقتصاديا وعلى كل مستوى وكل صعيد , وقادر على تطوير المناهج وكل ما يتصل بالعملية التعليمية بكل تشعباتها , إن نحن تيقنا من حقيقة ان التعليم هو أس معاناتنا , وأس راحة بالنا في الوقت ذاته , وما علينا إلا أن نختار أي الطريقين نريد !.
مجلس كهذا بمقدوره تطوير النهج والمنهج , وإحداث ثورة بيضاء شاملة في التعليم الاردني ليكون أنموذجا راقيا يستقطب الناس إلينا دون سوانا , أما ان يستمر الجدل بيننا حول المناهج وحذف عبارة هنا او هناك وتحويل ذلك إلى خلاف سياسي ! , فذلك أمر لا يستقيم أبدا , في وقت نتداول فيه وبتندر لا أفهم مغزاه ,عن مدارس لم ينجح منها أحد , وعن طلبة لا يجيدون القراءة والكتابة , ولا أعرف وقد اعرف , مسؤولية من هي , التلميذ الطفل الذي يتمنى زوال المدرسة كي يهنأ بعطلة كما كنا جميعا نفعل في ماضينا , أم هي مسؤولية المدرسة وأولياء الامور الذين إستودعوا اطفالهم هذه المدرسة ام تلك ! ! .
يشكر جلالة الملك كثيرا على ما يطرح من أفكار راقية للنقاش , وهذا هو ديدن كل قائد محترم يتابع بإهتمام ما يدور داخل وطنه من جدل وحوار ونقاش , وبالتأكيد , فإن من يتجادلون ولكن بالحسنى , يصدعون لأمر إلهي عظم , ولن يخذلهم الله أبدا أبدا , وهو جل في علاه من وراء القصد .