ولدتُ يا صديقي "التقدمي" في قرية تشبه كل قرى بلادي الفقيرة إلا من الطيب والمروءة .. ولم أخنْ ترابها يوما وكنت الوفي لناسها الطيبين "فسلاما على وطن الطيبين سلاما"، ولربما وطئتْ قدماي أكثر من خمسة عشر مطارا حول العالم شرقا وغربا ولكن لم أشعر إلا بحنين ودفء بلادي ، وظل جواز سفرها وعلمها الأغلى أنمّا رحلت وإرتحلت فإن كان ذاك رجعية فأنا رجعي.
خطفتنا دروب العسكرية مبكرا حيث الناس في بلدنا يضعون كل ثقتهم في هذه المؤسسة النقيّة، فهي طريق الفروسية والشهادة والرفعة، وعندما كنت أقود سرية على الحدود وأحمل دمي على كفي كان " التقدميون" يترزقون النضال في مقاهي وبارات بيروت ويسكرون بين سيقان الراقصات ويتغنون بكتب لينين وشعارات جيفارا ، والقصف يشتعل والشهداء وحدهم يصعدون إلى السماء ..! فإن كان ذلك رجعية فأنا رجعي.
ما حادتْ بوصلتنا عن فلسطين وكُنّا الأوفى لدماء شهدائها منذ كايد المفلح العبيدات شهيد سمخ وحتى سعيد العمرو شهيد القدس ، فنحن منهم لم نسهر على وقع بيانات مليئة بمصطلحات النضال والفداء والتحرير، ولكن كتبنا مع الشهداء الفقراء الذين يشبهوننا قصص البطولة بالدم والبارود ... نعم مشيت أيام الثانوية بمسيرات ورفعنا صوتنا عاليا ونحن نستظل ونرفع علم بلادي وحده ولم نمزقه أو ندوسه أو نشتمه كما فعل الآخرون ثم كوفؤوا بالمناصب والحظوة .
لم نتسوّل يوما على باب سفارة ولم ندرس على حساب دولة أجنبية أو حزب، ولكن باع آبائنا أرضهم وكدّوا بالمشّقة وبالتعب ليعلّموننا بأحسن الجامعات، ولم ترتهنْ إرادتنا لكائن ما كان ، ولربما إرتهنت أرضنا لبنك أو تاجر عندما ضاقت بنا سبل العيش ولكن لم نرهن كرامتنا ، فإنّ كانت تلك رجعية فآنا رجعي.
ننحاز للفقراء دائما لأنهم يشبهوننا ، وليس إنصياعا لفكر أو كتاب أو مُنظّر ، لأننا ببساطة من هؤلاء من جيل العسكر والفلاحين والمعلمين الذين بنوا الوطن رغم ضيق اليد ، ولم يهددوا أحدا بالرحيل عنه ، وآمنوا أن الله واحد والوطن واحد .
وبالمقابل لم نساوم على ديننا الإسلامي وأخلاقنا ولم نتنازل عن قيمنا ، ونؤمن بالمحبة والحوار والرأي الآخر، لأننا ببساطة هكذا تربينا ونحترم جارنا المسيحي منذ أن ولدنا ولربما أدفع دمي فداء له لو إستجار بي يوما..! فإن كانت تلك رجعية فأنا رجعي.
علّمنا أبي أول دروس الديموقراطية عندما لم يجبرنا على خيار في الحياة ، وكان ينصت لنا منذ كُنّا أطفالا ، وأنشأنا أحرارا وهو يشتري لنا جريدة "الرأي" كل صباح فكان عسكريا بدويا مثقفا ... وعلّمتنا أمي الإشتراكية قبل ماركس وهي تصرّ كل يوم أن تهدي جيراننا صحناً ممّا تصنعه لنا ..! فإن كان هناك من أحد مدينون لهم بالتعلّم فهم هؤلاء فقط.
لا أعرف كيف تقسّمون الناس هذا رجعي وهذا تقدمي ، وهذه قوى حرة وأخرى مرتهنة ، وهؤلاء ليبراليون وآخرون محافظون ، وتفرزون خطوطا جديدة ومصطلحات لتعتاشوا منها ونحن نعيش في وطن واحد ونركب نفس المركب ونتوجع من نفس الوجع .. لا أنحاز لأحد إلا للناس وللفقراء ، وأكفر بالنخب والشلل التي قسّمت الناس واستعلت عليهم واستنفعت من وراء هذه التقاسيم والتخندقات .. وأكفر بالإنتهازيبن والمتسلّقين والفاسدين الذين صعدوا على كتوف البسطاء ومطالبهم ، وعندما وصلوا باعوهم بثمن بخس.
هذا وطني واحد فإن كان حبّي له كما أريد رجعية فاشهدك يا صديقي إني رجعي .