وقف متردداً مراقباً تلك الطاولة التي كانت تعج بالزبائن من الطراز الرفيع حسبما همس في أذنه أحد أصدقائه ... ينتظر أي حركة أو إشارة ليسرع نحوهم ملبياً جميع الطلبات والنزوات... وكان فكره يبحر في مبلغ الإكرامية الذي سيدفعه له ذلك المسؤول الكبير هو وضيوفه وضيفاته ...
وكان (مالك) يفتعل الابتسامة على وجهه ويقف وِقفة طالما تدرّب عليها في دورة الاتيكيت التي أعطاهم إياها ذلك المطعم الذي يعمل فيه، ويعتبر دوماً صائداً للفرص حيث ينتقي أحد الزبائن الأثرياء ويظل بقربه ليسدل إليه الخدمات علّه يحظى بمبلغ من المال لتلك الخدمات الإضافية.
وكان زبون هذه الليلة من العيار الثقيل، فالبعض يقول أنه أحد أهم رجالات الدولة لذا فقد حجز مكاناً له بالقرب من طاولته وعيناه ترنو إلى تلك المحفظة المنتفخة بالنقود والتي وضعها ذلك الزبون إلى جانبه.
ظل مالك يرقب ذلك الزائر الكبير وضيوفه النزقين الذين كانوا يطلبون العديد من الطلبات .. لو سمحت ناولني الماء، لو سمحت اعطني الملعقة، لو سمحت بدّل هذا الكأس، لو سمحت أين الخبز الطازج ... وهكذا...
وبعد مضي سويعات إذ بالضيف ومعازيمه يهمون بالمغادرة، وقف مالك أمام الزائر الكبير وعيناه يملأهما الخجل وهو يسدل ناظره للأرض منتظراً أن يناديه ليضع في يده الإكرامية أو البقشيش...
ولكن شيئاً لم يحصل، فقد مر الجميع من أمامه ويكأنه غير موجود حتى أنهم لم يُسمعوه أياً من عبارات الإطراء... ركض مالك مرة أخرى محاولاً إظهار نفسه لكبير الجلسة ولكن الآخر حاد بنظره عنه مرة أخرى ليوقن مالك أنه لن يعطيه شيئاً... شعر مالك بالإحباط وعاد نحو الطاولة لينظفها متذكراً قول والده المشهور (مثل اللي بشتغل عند خاله!!!) الخال يتوقع أن ابن اخته لن يطلب منه أجرة، والولد يتوقع أن خاله سيغدق عليه بالمال!!
بدأ بتنظيف الطاولة وهو يراقب نظرات الشماته في عيون زملائه... نظر لأسفل الطاولة وإذ به يرى خاتماً مرصعاً بالألماس أو الأحجار الكريمة، التي لا يميز بينها ولكن كما يبدو أنه ثمين أمسك مكنسته واقترب من الخاتم والتقطه ووضعه في جيبه وصراع يدور في فكره، هل آخذه لي وأخفيه أم هل أركض وراء صاحبه لأعطيها اياه، وهل إذا أعطيته إياها سيكرمني بالنقود أم سيكون أجري عند الله !!
أم أن الله جعلهم ينسون هذا الخاتم كمكافأة لي لأنهم لم يعطوني الإكرامية... صراع فكري دار في ذهن مالك، إلاً أن خطواته سبقته بإتجاه ذلك الرجل المهم ومن معه وصرخ لو سمحت لقد سقط منكم شيئاً، وأعطى ذلك الخاتم لإحدى الفتيات التي ركضت نحوه قائلة "شكراً جزيلاً إنه خاتم خطبتي وهو ثمين جداً أشكرك" وما كان من الرجل المهم إلا أن مد يده إلى محفظته وتناول مبلغاً كبيراً من المال ونادى مالك وقال له خذ هذه لك، وهنا نظر مالك إليه بعينه وقال: أشكرك أنا لا آخذ المال على أمانتي ولكنني أقبله لعملي الذي أقدمه وذهب دون أن يأخذ شيئاً من المال وشعور بالندم الشديد وندم شديد يدور في ذهنه لأنه لم يأخذ تلك الدنانير، يقابلها سعادة غامرة اعترت قلبه طغت على الشعور بالندم، وعاد مالك ليكمل تنظيف الطاولة بفخر وشعور جديد لم يشعره من قبل.