التجربة المغربية ما زالت هي الأكثر تقدماً واستقراراً على الصعيد العربي، حيث استطاعت الدولة المغربية أن تتعامل بكفاءة واقعية مع التغيرات السياسية التي اجتاحت الأقطار العربية خلال السنوات السابقة، وتقدمت خطوات ناجحة نحو تشكيل حكومات برلمانية تفرزها الانتخابات العامة كل أربعة أعوام، وفقاً لتعديلات دستورية تم إقرارها سابقاً.
الانتخابات الجديدة التي أجريت قبل يومين في المغرب، أسفرت مرة أخرى عن تصدر حزب العدالة والتنمية للقوائم الحزبية المتنافسة حيث حصل على (125) مقعداً من أصل (395) مقعداً، بينما حصل منافسه الآصالة والمعاصرة على (101) مقعد، كما قد حصل حزب الاستقلال على (46) مقعداً، ثم التجمع الوطني للأحرار على (37) مقعداً، والحركة الشعبية حصلت على (27) مقعداً، والاتحاد الاشتراكي حصل على (20) مقعداً والاتحاد الدستوري حصل على (19) مقعداً.
بموجب الدستور فإن الملك يكلف الحزب الذي حصل على أعلى الأصوات بتشكيل الحكومة، مما يعني إعادة تكليف عبد الله بن كيران زعيم حزب العدالة والتنمية بتشكيل الحكومة للمرة الثانية على التوالي، بعد أن مكث في الحكومة السابقة ما يقارب الخمسة أعوام، وكان بعض المراقبين يتوقع تراجع الحزب لأنه سوف يدفع ضريبة السلطة وتحمل المسؤولية في ظل ظروف اقتصادية صعبة، ولكن حزب العدالة والتنمية استطاع زيادة حصته من (107) مقاعد في المرة السابقة، إلى (125) مقعداً في الانتخابات الأخيرة، وهذا يعد انتصاراً له في معركة التنافس الحزبي على صعيد البرامج العملية ومعالجة الواقع المغربي، إضافة إلى التنافس الفكري والتنظيري والخطاب السياسي الناجح.
الانتصار الكبير في الحقيقية والواقع هو للشعب المغربي كله، وللدولة المغربية بكل مؤسساتها، التي استطاعت أن ترسخ التجربة الديمقراطية الوليدة، وتسير بها نحو التجذر واللحاق بالمجتمعات الديمقراطية المتقدمة، التي سوف تسهم في قيادة الشعوب العربية الأخرى نحو آفاق الحكم الديمقراطي، وتحقيق مشاركة الشعوب الفاعلة في تقرير مصيرها، واختيار حكوماتها، وإخضاع أصحاب السلطة والقرار للمراقبة والمحاسبة والتقويم، وضرورة التخلص من آثار حقبة الأنظمة المتسلطة وسلطة الرجل الواحد، والحزب الواحد، والأنظمة الشمولية التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تخلف الأمة العربية عن ركب الحضارة الإنسانية خلال نصف قرن من الزمان ويزيد واغراقها في بحر من الدماء والاشلاء.
ليس مهماً أن يفوز الإسلاميون أو غير الإسلاميين، ويجب أن لا يكون الاهتمام منصباً على الفرز الأيدولوجي، بقدر ما ينبغي أن نقف على أهمية ترسيخ التجربة الديمقراطية، وإنجاح التنافس الحزبي في حلبة السباق البرامجي، وأن نشعر بالسعادة والفرح عندما يتمكن الشعب العربي المغربي من الاختيار الحر النزيه، وأن يتمكن من تطوير أدوات الفرز الشعبي للأصلح والأكثر قوة وأمانة على صعيد المصلحة العامة.
حزب العدالة والتنمية استطاع عبر منظومته القيادية والفكرية والتنظيمية أن يقرأ المشهد بعمق، وأن يقدم للشعب المغربي خطاباً عصرياً متقدماً؛ يمتاز بجأة الطرح وعمق الفكرة، كما استطاع أن يقف على الأولويات بحزم، متجاوزاً القيود الشكلية، والجمود الفكري والحركي الذي سيطر على كثير من فروع الحركة الإسلامية في المشرق العربي وفي أماكن أخرى.
يجب أن نعلم يقيناً أن الإسلام عبارة عن منظومة قيم، وليس برامج عمل جاهزة ومتوارثة، فبرامج العمل تحتاج إلى إنجاز وصياغة وابتكار، وتحتاج إلى عقول وجهود وعلم ومعرفة وخبرة وسباق مع الآخرين وسباق مع الزمن، فهناك من ينتسب إلى الإسلام ويرفع شعاره ولا يحمل برنامجاً عملياً ناجحاُ، وهناك من بذل واجتهد واستطاع أن يملك برنامجه العملي القابل للتطبيق والقابل للسباق والتنافس مع الآخرين، وإذا أراد الإسلاميون في البقاع الأخرى النهوض، فعليهم أن يغادروا خطاب الضحية والبكائيات، وأن يغادروا خطاب المؤامرة والاقتصار على مقولة استهداف الإسلام، وأن يتخلوا عن استثارة عواطف الجمهور الدينية واستدرار تأييد الناس عبر التعصب الديني، وأن لا يجعلوا من الإسلام عاملاً للمواجهة والمناكفة بين مكونات المجتمع، وأن يبتعدوا عن إثارة مكامن الفرقة والانقسام، فهذه معركة خاسرة، ومضيعة للوقت والجهد، وعلى شباب الأمة التوجه لإثبات ذاتهم عبر العلم والمعرفة والكفاءة، والبحث عن الحكمة وتوظيفها في معركة النهوض، وينبغي التوجه الجماعي بلا إبطاء نحو معركة حشد الطاقات في محصلة إيجابية نافعة تحمي مقدرات الأمة ومصالحها ومستقبلها.
الدستور