"حصاد الزمن الصعب" لرجل دولة من طراز رفيع
ليلى الرفاعي
09-10-2016 02:40 PM
تشرفتُ مؤخراً بحضور حفل إشهار وتوقيع كتاب حصاد الزمن الصعب، في منتدى عبد الحميد شومان الثقافي، لمؤلفِ استطاع أن يجمع بعضاً من أوراقهِ في كتابِ ليروي حكايةِ الزمن الصعب، زمنُ عصيب وعصيٌ عن اللين والهوادة. لكن مؤلفه أصر على أن يلون غلاف كتابه بوريقات خضراء صغيرة، أبت الاحتضار والفناء، وتشبثت بأرض قاحلة جرداء، وتمكنت من البزوغ، رغماً عن كل شيء. فكان غلافه عنواناً ضمنياً لكتابه، وحكايته التي تحوي عصارة خمسة واربعين عاماً من العمل السياسي، والاقتصادي، والإجتماعي.
هو ابن نابلس، وكما لنابلس الجميلة هدوءها، فقد مسحت على كيانه مسحة الرزانة والهدوء، ولونت سني عطائه برقي التعامل، ورقاقة الالفاظ، ورسمت على محياه البسمة الدائمة، رغم الانشغالات والإلتزامات المتواصلة. وكسته بصبرها صبراً على صبرِ، على أمل الرجوع، لا هو عنواناً للخنوع، ولا هو مفتاحاً للفرج، إنما رفضاً لمحتل بغيض.
طاهر المصري القامة الأكثر امتثالاً للصراحة والنزاهة والسمو، المترفع عن الكبر والغرور، والتبختر والغطرسة ، الصديق الصدوق، الوفي المنتمي لأرضه النابلسية الجميلة.. ووطنه الفردوسي المحتل، عروبي حتى النخاع، وهو ذاته الباسل الجسور المدافع عن وطنه الاردن. لا يثنيه عن الحق ضير، ولا يرده عن النزاهة باب. نموذج وسطي في زمن تصادمت فيه الاطراف، من طليعة من انتهجوا الديمقراطية الحقة وعززوها. هوالطاهر الذي اكسبه اسمه نصيبا منه، فقرب إليه المتفرقين، واجتمع عنده المتخاصمون، وفتح بابه وانصت لما يدور حوله، اقترب من البسطاء وعاش همومهم، خلق قنوات الإتصال لا الإنفصال، وتمكن من اجتثاث الحب والاحترام من صدورنا، ليس لكون الطاهر فقط بل لليونةِ تأصلتْ في مأصلهِ وجذورهِ الفلسطينية الأردنية، ساهمت في تربعه منفرداً على ما يصعب جمعه، بين رئاسة الحكومة والأعيان والنواب. رئيساً بجدارة، في حقيقةٍ كما أسماها الزمن الصعب.
بسط طاهر المصري ذاكرته أمام من عشقوا نزاهته، وجرأته الصريحة لمن أحبوه، ولمن طَعَنْوا يوماً في مواقفهِ، لأجل قرارات اتخذها في غرفة مغلقة وحوسب عليها لكنها لله وللتاريخ والوطن وليس بنادم عليها.
بسط أبو نشأت ذاكرته، لأجل ما حوته سنو عمره، من نضال فكري وقومي وروحي، ولأجل الأردن الذي نشأ وليداً بين جيرانه الأكثر ثروةً وموارد، وساهم كما رفقاء البسالة في زمن المغفور له الملك الحسين بن طلال، في بناء الأردن ومؤسساته، رغم عجاج المتغيرات ، الكونية والإقليمية والمحلية، كما يصفها الطاهر في كتابه، المليء بالمقالات والمحاضرات والكلمات واللقاءات الصحفية والمقابلات ورسائل الشكر والخطابات والمراسلات وردودها. ما هي إلا تأريخ حقيقي وإرث سياسي واقتصادي واجتماعي لحقبات صعبة في مضمارها ، حسناء في ذكراها، وثمينة في مكنونها أشبه بالأنصبة التذكارية التي تترك جرح المعارك وعجاجها، فاستلت من صدورنا مرارة الوجع بمرور السنين.
كتاب الطاهر عزز الكثير مما نتوق لسماعه وفعله الآن، أمام المشاهد السياسية الموجعة، كالقضية الفلسطينية وإصلاح النفوس قبل النصوص ، والثورة البيضاء، والهوية والمواطنة، والنهوض من الرماد، والديمقراطية الحق، وتحذيراته الأكثر شدة "من الخطر الذي يداهم مملكتنا من بعض الجيوب الاجتماعية التي بدات تنعزل على ذاتها، حتى صارت مرتعا للفكر المنغلق الذي يجد في دعوات التطرف سبيلاً للتعبير ومنهجا للفكر".
وها هو النابغة دولة عبد الكريم الكباريتي ، قد أفاض علينا وأطنب بكلام لا أروع ولا أجمل، في نص أدبي قوي كالرياح، رقيق كالنسيم ، أدمع عيون الحضور وأضحك سنهم، واصفاً لمؤلفنا فيقول: "شجاع يحارب بالكلمة، وأمانة الموقف، ديمقراطي، اجتماعي، يعرف الثوابت، ولا تغيب عنه المتغيرات، يميني مع اليسار، ويساري مع اليمين، ومتوازن مع الجميع. نموذج للزمن الصعب، قوة هادئة ومهدئة، يطَّوع مواقفه بحثاً عن الوفاق، طريقاً مستقيماً للحفاظ على وحدة الوطن والمجتمع.
إنه حالة ٌ أردنيةٌ نادرةٌ. يدرك أن مصلحة الوطن أقوى من تاريخ الأفراد ، فلا يعاني من وهم القوة، ولا من مأزق الزعامة، وما يصدر عنه إنما يصدر صناعةً للمستقبل وليس للتاريخ، وحصاده اليوم هو بوح، بوح تناسل من ضفتي ضميره ووجدانه ونشيج روحه وقلبه الطاهر".
ما زال المصري حاضرا بنا في التاريخ والمستقبل، بل ويصر على أن يبقى الجميل جميلأً بيننا متنفساً هواه السياسي الذي يعشق، لا متغافل او متناسي عن قضايا الدولة والمجتمع رغم توقفه عن عمله السياسي. مقدماً حصاده بتسلسل تاريخي موثق، بأسلوب مفعم بالجزالة قريب من القارئ، تماما كأسلوب السهل الممتنع، لتجد لذة القراءة بين أسطر التشويق والترغيب.