اذا ما تجاوزنا الاتهامات التي اختزلت المعارضين لتعديل المناهج في جهات محددة قيل انها اختطفت القضية ووظفتها لحساباتها الخاصة، فان ما حدث اتاح لنا فرصة ثمينة لرؤية انفسنا ورصد حركة مجتمعنا، ومعرفة اين اصبنا واين اخطانا ..؟
لدي (5) ملاحظات يمكن ان اسجلها هنا، الاولى ان ما جرى من سجالات عكس حالة “ الفرز “ بين النخب داخل مجتمعنا، فقد اصطف البعض وراء مقررات التعديل باعتبارها جزءا من اصلاح منظومة التعليم، فيما اندفع اخرون الى اعتبارها انقلابا على ثوابت الدين والدولة والتعليم ايضا، حالة الفرز هذه ليست جديدة، ولكنها اعادت لذاكرتنا السؤال عن دور هذه النخب في التعبير عن الضمير العام، وعن مسؤوليتها الوطنية والاخلاقية في قيادة هذا المجتمع نحو نقاشات موضوعية بدل ارباكه واحداث الانقسامات داخله .
الملاحظة الثالثة هي ان الحيوية التي يتمتع بها مجتمعنا - على اهميتها - لا تعكس بالضرورة حالة “ العافية “، صحيح ان التعديلات التي اقحمت على المناهج استفزت قطاعات كبيرة من الاباء والطلبة ودفعتهم للاحتجاج، لكن الصحيح ايضا ان هذه “ الحراكات “ الاجتماعية – على عفويتها – افرزت من الناس احيانا اسوأ ما فيهم، فقد شهدنا طلبة يحرقون الكتب المدرسية، كما شهدنا حالة من الفوضى في مدارسنا، قد يقال هنا ان هذه الردود مفهومة في سياق رفض التعديلات التي استهدفت حذف الايات القرانية من بعض المناهج، لكن غير المفهوم، ولا المقبول ايضا، هو اقحام الطلبة الصغار واستخدامهم في مواجهة مع الدولة، و في قضية تتعلق بالدين، ولنا ان نتصور هنا كيف سيؤثر ذلك على علاقة هذا النشئ الجديد ببلده، ثم كيف سنتمكن لاحقا من اقناعه بالقيم الوطنية التي تتضمنها المناهج، ما دام ان” فكرة” تشويه هذه القيم ترسخت في ذهنه اثر عملية “ شيطنة “ الذين قاموا بتعديلها.
اما الملاحظة الثالثة فهي ان ما حدث اعادنا مرة اخرى الى ثنائية تسييس الدين و تديين السياسية، ققد تم استخدام “ الدين “ من جانب بعض السياسيين لدحض اراء المعارضين للتعديلات وافحامهم،واستعان هؤلاء بعدد من العلماء والمشايخ، كما تم توظيف المنابر والخطباء، فيما دخل اخرون باسم الدين ايضا، لاحراج السياسي والاشتباك معه، ومن ثم الانتصار عليه .
الملاحظة الرابعة هي ان ما حدث اكد حالة “ الطلاق “ بين العالم الواقعي الذي تمثله وسائل الاعلام “المنضبطة” سواء اكانت رسمية او شبه رسمية، وبين العالم الافتراضي الذي تمثله وسائل التواصل الاجتماعي، حالة الطلاق هذه وضعتنا مجددا امام سؤالين : احدهما يتعلق بمدى قدرتنا تطوير خطابنا الاعلامي الرسمي، خطاب الدولة، لمواجهة الازمات التي توجهنا، والسؤال الاخر يتعلق بمدى قدرتنا على التعامل مع الفضاء الافتراضي بوسائله المختلفة، ليس من جهة المنع والمحاصرة والتشريعات الرادعة، وانما من خلال الاستفاده منه والاستثمار فيه، الاجابة – بالطبع – على السؤالين تحتاج الى مزيد من النقاش العام، لكن ما كشفته دربكة المناهج بوضوح، هو ان “ الاعلام الجديد” اصبح قادرا على توجيه الراي العام والتاثير فيه، بعكس الاعلام التقليدي الذي خرج خاسرا في هذه المواجهة .
تبقى الملاحظة الخامسة وهي ان الغائب فيما جرى من نقاشات حول القضية كان خطاب “ الحكمة “ والتبصر، غياب الحكمة عن معظم الاطراف عكس ازمة مجتمعنا المسكوت عنها، وهي ازمة عميقة انتجتها ظروف متراكمة، ابزرها اتساع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، وفقدان “ الرأس “ القادر على ادارة الجسد “ الاجتماعي “ وتوجيهة، كان يمكن ببساطة ان تجلس الاطراف كلها : الوزارة والنقابة والخبراء المعنيون بموضوع المناهج على طاولة حوار، كان يمكن ان يستخدم الجميع “ خطابا “ متزنا وهادئا بعيدا عن محاولات الحذف والتشويه، لكن ما حدث للاسف كان بعكس هذا الاتجاه .
الدستور