أعلم أن الموت حق ، وأؤمن بأن للعمر نهاية مهما طال لكن الذي لم أكن أعلمه إو أتخيل مداه هو الألم والمعاناة اللذان يصيبا من يقف جوار أمه وهي ترقد على سرير للمستشفى يحتار بتسميته أهو سرير الشفاء أم سرير الموت ، أربعون يوما في المستشفى وأنا لا أملك القيام بأي فعل سوى السؤال عن صحتها وعن رأي الأطباء في حالتها ، أسترق وقت رفع جهاز التنفس عن فمها وأنفها لأسألها عن مواقع ألمها فتستعيض عن الجواب .
بعد التأكد من إحكام تغطية شعرها بشالها الأبيض ، بالدعاء لي ولأبنائي وكأنها حتى في أحلك الأوقات تصر على استثمار ما تبقى من قدرتها المتضائلة على الكلام في ما ينفعني وأبنائي شعرت بالعجز عن القيام بأي عمل يسهم في شفائها أو يخفف من آلامها ، أمي التي كان طرف ثوبها يمثل لي أيام طفولتي درعا أحتمي خلفه من أعتى المخاطر ، تحتمي بي رجلا من ألم إبرة أو تستغيثني من وحشة مستشفى ممسكة بيدي ( تتركنيش يمه ) أخالفها مكرها إنصياعا لأمر طبيب أو ممرض ، تمنيت لو أتمكن على الأقل من الحيلولة بينها وبين إبرة إزرقت يدها من ألمها ، وقفت عاجزا أمام حماية يد لم تتردد صاحبتها ولو للحظة واحدة عن استخدامها ترسا يقي جسدي يوم كنت طفلا لا يدرك خطورة اللعب بالنار والإقتراب من الأخطار، ترى لو يضعوا الأبرة في يدي ويعود حبل الصرة بيني وبينها ليجري فيه الدم عكس اتجاهه أيام كنت جنينا تمدني بخلاصة غذائها ودمها النقي !!!
هل أرد بذلك بعض الجميل ؟ والله لو حصل ذلك لا أظنه يغفر لي لحظة استسلام للموت دعوت الله فيها لراحتها وأنا أعتقد جازما أن ما من أم راودها مثل ذلك وعيناها تجافي النوم ساهرة جوار إبنها المريض أملها الوحيد شفاؤه رغم كل توقعات الأطباء .
لم تكن أم مصطفى رحمها الله أما لكل أبناء الحي كبعض السلطيات من جيلها بحكم بيئتها المدنية التي تؤمن بالخصوصية كما أنها لم تكن فياضة المشاعر تغمرنا بحلو الكلام ، لكنني ما وجدت صعوبة في إدراك وحس حبها لنا نحن أبناؤها وبناتها فالأفعال عندها أهم من الألفاظ العاطفية فكم أكلنا من خبز في طفولتنا كان عجينه مجبولا بمسك إفراز ما بين أصابعها وأما رضاعتي حولين كاملين والغفوة في أحضانها على أنغام دقات قلبها فهي سرعاطفة ما زالت تسري في عروقي وقد جاوز عمري الخمسين .
لم يكن خافيا كذلك حبها ووفاؤها للمرحوم والدي رفيق دربها الذي سبقها بإثنين وعشرين عاما بعد أن كان قد اتفق معها صبيحة يوم رحيله على مكان دفنهما متجاورين في حديقة المنزل الذي لم تعد تطيق مغادرته ولو لبضع ساعات إلى أن غادرته قسرا إلى المستشفى الذي عادت منه محمولة لتدفن جوار رفيقها حسب رغبته طائعة له ميتا كما أطاعته حيا .
في اليوم الأول من رمضان في أول رمضان يمر علينا بعد رحيلك ، افتقدتك يا أمي ، كم أشعر باليتم ، ما أقسى اليتم بعد أن يصبح أحدنا أبا أو أما ويذوق لذة ومعاناة الوالدين ، إلى رحمة الله (يمّه) أنت وكل الأمهات والآباء
mustafawaked@hotmail.com