في الجدل الدائر منذ سنوات حيال التطبيع والمقاومة والاختلاف مع الحكومات ، اغفلت قوى التنوير المستوى الاجتماعي والخراب الدائر في عوالمه السرّية والمعلنة ، ولعل الجدل الدائر حول المناهج مؤخرا يكشف حجم العوار على هذا المستوى ، حيث تقوم القوى المناهضة لتعديل المناهج بحشد هممها لمواجهة هذا التعديل ، غافلة عن حجم الخراب الذي يدور على عجلات وسيقان وفي رذاذ الفضاء دون ادنى مقاومة ، حتى وصلنا الى سيادة الفن الهابط والثقافة الهابطة حدّ نشر ترتيب الدول الاكثر مشاهدة للمواقع الاباحية في شهر رمضان المبارك ، وانتهى الموسم باحتلال اغنية « اه لو لعبت يا زهر « قائمة الاكثر انتشارا في العالم العربي .
خلال سنوات الاشتباك مع الحكومات على المستوى السياسي والحُرّياتي ، اغفلنا جميعا الانفتاح على المستوى الاجتماعي دون تزويد الاجيال الجديدة بزوادة معرفية ، فكانت الحصيلة ان اصبح توقيف فنان او فنانة اكثر اثارة للرأي العام من حصول مبدع على جائزة دولية ، وباتت اي مباراة جاذبة لجمهور يفوق جمهور اي احتفالية وطنية ، وقبلنا الغزو السلوكي بقصة الشعر واللباس الممزق والاغاني والافلام وحتى في نمطية التفكير الاستهلاكي وتسليع الارواح والاجساد وقبول كل ما ينتجه الغرب بإذعان دون مواءمته مع منهجنا المجتمعي .
اه لو لعبت يا زهر ، ليست اغنية هابطة جرى توظيفها في فيلم هابط ، بل هي اسلوب حياة ، نعيشه يوميا ونمارس تفاصيله وندفع استحقاقاته عن طيب خاطر ، فقبلنا ان يضرب المعلم في احدى دعايات قناة افلام ، وقبلنا التسليع في ثقافتنا والتهكم على موروثنا الثقافي من اجل دعاية لمنتج او ابتزاز بسمة في مسرحية او فيلم ، قبلنا البنطال الساحل والقميص الواصل للسُرّة ، وقبلنا كل ما هو قادم من الغرب دون اي موانع ثقافية وفكرية ، كل التسليح كان افتراضيا على شاكلة الاخلاق المجتمعية والثقافة القومية التي نذبحها كل يوم ونذبح المثقفين والمبدعين بالفقر والحاجة حتى يتحولوا الى ارقام في الروابط والمنتديات الفكرية او صور في ألبوم فقيد .
نحتفى بالموتى من المبدعين والمفكرين على عجل ، ولا نسأل عنهم طوال حياتهم ، فأي مجتمع نحن ؟ نُعلي قيمة الموت على حساب الحياة ، نرفع قيمة الشخص الراحل ونطحن الانسان الحيّ ، نمارس الوعي بأثر رجعي ونمارس الحياة بأدوات حداثية لا تُناسب واقعنا الفكري ومنسوب الوعي ، نحمل ارقى انواع الهواتف الذكية ولا نملك وسائل نقل عامة ، نصدح بالجمل والعبارات الرنانة ولا نعرف كيف نقف على جانب الطريق لنفسح المجال لمن يريد ان يصل غايته سواء كان مريضا او عائدا الى منزله بعد يوم شاق .
نحاكي الغرب بقصة شعر ولباس ونمتنع عن محاكاته في احترام اداب السواقة رغم اننا المنتجون للعبارة - السواقة فن وذوق واخلاق - ، فالشوارع للمارة والارصفة للبضائع والبسطات وعلى السائق ان يبحث عن طريق له للوصول ، نتغنى بالمدن وتاريخها ولا نقوم بزيارة اي متحف او قلعة ، يموت سنويا العشرات غرقا ولا نملك بحرا ، ننافس العالم بعدد ضحايا حوادث الطرق رغم عددنا القليل ويفوق اشتراكنا الخلوي عدد سكاننا بمرتين ، كل الامور مقلوبة ومع ذلك لا تغضب نخبنا لذلك كما غضبها لتعديل منهج مما يعني اننا نمسك بتلابيب الفكرة ولا نغوص في عمقها .
ثمة حكمة تقول : القاضي الجيد يمنحنا العدالة حتى لو كان القانون سيئا ، وكذلك الانسان الجيد قادر على التصدي لكل الاختلالات ويدافع عن منظومته القيمية حتى لو كانت الظروف صعبة وقاسية ، فكل منظومتنا القيمية جرى الحفاظ عليها في زمن الفقر وضيق اليد ، والاصلاح الاجتماعي اهم من كل الاصلاحات الاخرى .
الدستور