ثمة فراق كبير بين حقيقة الدين والتدين ، فالدين هو شرع الله تعالى وتعاليمه ، اما التدين فهو فهمنا لهذه الشرائع وممارساتنا لها ، فالاول الهي مقدس وثابت ، اما الثاني فكسب بشري غير مقدس وغير ثابت ، ونحن هنا نتحدث عن التدين لا عن الدين ، وعن اخطاء المتدينين وعلل التدين وامراضه - وهي للاسف كثيرة - لا يخلو احد من الناس منها ، بعضها مصدره الجهل وبعضها سببها التقدير الزائف للذات لدرجة احتقار الآخرين ، او التعصب او الانفصام بين الاقوال والافعال ، وهي كلها تصب في اتجاه الاعتناء بالظاهر مع اهمال الباطن ، بمعنى ان المتدين يعتني في تدينه بتحسين الاعمال والصفات الظاهرة والمرئية والملموسة ، ويحرص على الالتزام بالعبادات شكلياً ، بينما لا يبالي بعكسها مما لا يراه الناس ولا يظهر للعيان .
ولفقهائنا - هنا - تقسيمات كثيرة لهذا النوع من التدين ، فهو بحسب الشيخ محمد الغزالي تدين فاسد ، يفسد البداهة ويمسخ الفطرة ، وهو - عند الدكتور الريسوني - تدين منحط يراعي الشكل ولا يهتم بالجوهر ، او تدين معكوس لا يراعي اولويات الدين ومقاصده ، (خذ مثلاً التركيز على فقه النظافة بينما شوارع مدننا غارقة في الاوساح ، وخذ مثلا ايضاً الاغداق والكرم في اقامة الولائم مقابل تضييع فريضة الزكاة..) او تدين محروس ، وهو الذي لا يلتزم اصحابه بواجباتهم الا بالمراقبة والمطالبة والملاحقة ، ومثال ذلك المتدين الذي يصلي ويصوم ولا يؤدي ما للناس عليه من حقوق الا بعد المماطلة والتسويف.. وثمة تدين مسيس وتدين متشدد.. الخ الخ.
ما وقع فيه شبابنا المتدين للاسف ، هو جزء من مشكلة التدين التي نعاني منها ، فمع غياب الدعاة القدوة ، والفقهاء المستنيرون المواكبون للاجتهاد على ضوء الموازنة بين ما قرره الشرع من احكام ، وما يقتضيه الواقع ونوازله من انزال لهذه الاحكام في المكان والزمان ، ومع تراجع أثر الدين في حياة الناس العامة نتيجة غياب تطبيقه ، ومع تلوث البيئة المحيطة بهم وانتشار القيم البديلة الوافدة وانسداد الابواب المشروعة.. لم يجد شبابنا - وهم ضحايا بلا شك - الا النوافذ غير المشروعة لتحقيق احلامهم..
علينا ان نعترف بأن “الدين” ما زال غائباً عن حياتنا، وبأن “تديننا” لا يتجاوز “الشكل” والوظيفة، وبان “ورعنا” ما زال كامنا في القلب ولم يخرج الى الجوارح، وبأن فهمنا للدين وقيمه لا يختلف عن فهم غيرنا لقواعد “النحو” في لغاتهم، وعلينا ان نعترف – ايضاً – بأننا سجنا القرآن في الغرف المغلقة، وبأن علاقتنا مع الاسلام لا تقوم على “التفكر” والتعقل وانما على العاطفة فقط، وبأن نسخة “الدين” التي نتفاخر بها ونستهلكها “ونتنابز” بها حضارياً مع الآخر هي نسخة مغشوشة، حتى وان كنا نتبرك بها ونقدسها بين الحين والآخر.
ان السؤال عن حضور الدين في “المستجدات” الراهنة وعن دور مؤسساتنا في اعادة الوعي للشعوب وبعث ارادة التغيير فيها يكشف جانباً من الحقيقة المرة التي أشرنا اليها، فقد تحول “الفاعلون”-معظمهم ان شئت الدقة – في حقولنا الدينية الى ادوات طيعة لثني الناس عن المطالبة بحقوقهم، واختار بعضهم ان يرفع “فزاعة” الفتنة باسم الدين لتخويف الناس من الاصلاح، ونجح آخرون دخلوا على خط “التدين” المغلوط في تشويه صورة الدين والاصلاح معاً.
لم يتوقف الامر – للأسف – عند هذا الحد، فقد انشغل آخرون بالجدل حول “الدولة” في الاسلام: مدنية أم دينية، اسلامية أم علمانية، فيما غابت قضية الحرية والديمقراطية عن الواجهة، وفيما استبدل الانسان (بحقوقه وكرامته) كموضوع مفترض للنقاش، بشكل الدولة وطبيعة نظامها، وكان بناء العمران مقدم في الاسلام على بناء الانسان.
لو كان الدين حاضراً في حياتنا فعلاً، ولو كان الدعاة اليه حقيقيين ومخلصين، ولو كانت مؤسساته قائمة على “التقوى” لما وصلت مجتمعاتنا ودولنا الى هذا الدرك من الفساد والظلم والعدوان.
الدستور