ثمة انعكاس لما يجري في السياسة على الاقتصاد .. في السياسة الكثير من التفرد ونزعات التسلط وتجاهل القانون ، ويقابلها في الاقتصاد ما يتفوق على هذا المشهد سلبيا ، فمئات الديكتاتوريات الاقتصادية التي تتكاثربين ظهرانينا ، تؤسس الى واقع غريب وغير قانوني يخسر فيه الكل بينما يتسيد شخص واحد وهو في الغالب رئيس مجلس الادارة .
جولة سريعة على ما يحدث في الشركات المساهمة العامة من تجاوزات ومخالفات واشكال فساد متجددة ومتكررة يدفع بالباحث والمتتبع الى الخروج بنظرية مفادها ان الشركات تحولت الى مزارع ، وما كان يعد مالا عاما امسى - بفعل تغول رئيس مجلس الادارة على القانون واستباحته كل شيء – نفعا شخصيا .. فيما يجري ذلك في ظل غياب القانون والرقابة وسيادة التفرد في القرار وافساد كل الحلقات ذات الصلة بالشركات ونشاطها .
ازعم ان الفساد وازلامه في الشركات المساهمة العامة اقوى من أي مؤسسة او قانون في البلاد ، والمفارقة تتحقق من ان معظم المؤسسات والافراد ذوي الصلة بعمل الشركات المساهمة العامة ليسوا سوى مجموعة تدور في مدارات تلك الشركات ولا تصطدم معها ، والا فكيف يمكن تفسير ان شركات تدقيق الحسابات تنشط شكليا لاضفاء الشرعية على بيانات الشركات المساهمة العامة ووضع الديباجة السخيفة " ان جميع البيانات والمؤشرات المالية تأتي متفقة والمعايير المحاسبية الدولية .. وتعبر تلك البيانات عن الوضع المالي للشركة .. " .
والامر لا يقف عند تدقيق الحسابات التي اشك في انها تدقق او تنفذ عملها في كثير من الشركات المساهمة العامة التي طالتها يد الفساد وتغولت فيها ، بل على العكس فأن المدقق – الا من رحم ربي - يكون على علاقة وثيقة مع رئيس مجلس الادارة ويتشاطر معه كيفية تنفيذ الخديعة بحق المساهمين والاقتصاد برمته .
الدور الشكلي والتضليلي الاخر تمارسه مراقبة الشركات في وزارة الصناعة والتجارة ، من خلال اهتمامها بالعدد والعديد لمن حضر الاجتماع العادي او غير العادي للهيئة العامة للشركة ، بين ان كوادر تلك " المراقبة " لا تحرك ساكنا حيال المضمون والتجاوزات التي تمارس داخل الشركات ، ولم اسمع ان مراقبة الشركات رغم مضي عقود على عملها قد حققت تقدما استثنائيا في الرقابة على الشركات او مأسست لهذا الامر ، وينتهي دور مندوب مراقبة الشركات على نحو شكلي غير فاعل في تلك الاجتماعات وعادة يكون موقعه في الجلسة الى جانب رئيس مجلس الادارة ولا ينفك من الاكثار في توزيع الابتسامات امام الرئيس .
اما المساهمين ومالكي الاسهم لا سيما الصغار منهم ، فانهم اكثر ضعفا واقل حيلة من أي طرف اخر ، فهذا يقترح على رئيس مجلس الادارة ان يدعو لاجتماع الهيئة العامة المقبل في فندق فاخر بدلا من " هذه الصالة الصغيرة " واخر يدعو الى الى تقديم الكنافة عقب الانتهاء من الاجتماع في العام المقبل بدل تقديم المعجنات وغيرهم كثيرون ممن لا يملك الشجاعة او القوة او الوعي على مواجهة مجلس الادارة الذي تزايدت في عهده الخسائر واستبيحت اموال الناس على اياديهم . انها شبكة من العلاقات والرشى وتبادل المنافع غير المشروعة بين اطراف اللعبة في الشركات المساهمة العامة التي غوى مجلس ادارتها وحاد عن طريق القانون ، فالمجلس باعضائه وقبلهم رئيسهم يستبيح الاموال ويخدع المساهمين ويقدم ميزانيات كاذبة وعين الرقابة مغمضة او غير موجودة ، فيما الصحافة اضعف من ان تجابه واحدا من هؤلاء وتكشف للرأي العام عيوبه وتطاوله على القانون ، فالعلاقة مع الصحافة ايضا لها ادوات تأثير ليس اقلها التلويح بالغاء الاعلانات وهي الذراع المالية التي ترفعها ادارات الشركات الفاسدة في وجه الصحافة .
عادة تنحني الصحافة المحلي – الا من رحم ربي ايضا - امام الضغوط التي تمارسها الادارات الفاسدة من وقف اموال الاعلانات ، وهو سلوك تمارسه ايضا مؤسسات عامة اذ تضغط بكل قوتها لمنع النشر او تغيير صورة ما نشر بفعل قياس الاثر المالي نتيجة ما كتب ونشر ، وما هذه الضغوط الا صورة نمطية ووجه اخر للفساد تمارسه الشركات بحق المجتمع وشفافيته وحريته وقبل ذلك بحق اخلاقه .
اثناء تغطية الانتخابات البلدية والبرلمانية لقناة الجزيرة خلال النصف الثاني من العام المنصرم ، فأن سقف التغطية بلغ مداه بالصورة والمعلومة وطاول عنان السماء عندما كان الحديث عن التزوير والتصويت غير القانوني وشراء الاصوات وكافة اشكال الخراب في هاتين التجربتين ، لكن المفارقة – من خلال تجربتي الخاصة - ان السلطات المحلية بكافة اشكالها لم تسع الى منع ظهور هذه الحقيقة او التأثير على نحو فج لطمس تلك الصورة غير المقبولة بالنسبة للرسميين ، اما عندما يتم الحديث عن فساد الشركات – حتى لو بالوثائق – فان تلك الشركات تضغط بكل الوسائل لمنع النشر او تكذيبه وتقديم صورة مخادعة للقارئ واجبار الصحيفة على نشر هذه الصورة اكثر من مرة امعانا في اهانة القارئ والجمهور وتثبيتا لوضع بائس اصبح فيه مجلس ادارة هذه الشركة او تلك منزها عن الخطأ والعيب وخطا احمرا لا يمكن الاقتراب منه .
اتساءل واتمنى ان اجد الاجابة ، هل ثمة من يراقب الشركات المساهمة العامة في بلادنا ؟!