فضاء تزدحم فيه الإشارات والترددات يسانده عالم رقمي افتراضي يسيطران على المشهد الإعلامي العام الذي يعاني من انفلات غير مسبوق في الخطاب الإعلامي المشبوه تحت مظلة خطيرة استغلت بشكل سلبي أقوى أنواع الخطاب على الإطلاق ألا وهو الخطاب الديني دون مراقبة مسؤولة وحقيقية على الرغم من حساسية وخطورة المرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقة العربية بشكل عام.
في الأمس القريب انعقد المؤتمر الدولي الذي رعته جامعة الدول العربية ونظمته الهيئة العربية للبث الفضائي في عمان وحمل عنوان (دور الإعلام في مكافحة الإرهاب والتطرف .. الإعلام الافتراضي سلاح الإرهاب الجديد) لإلقاء الضوء على حجم التهديد الكبير الذي تشهده المنطقة العربية ككل وللبحث عن حلول عربية مشتركة لمواجهة هذا التهديد، لا سيما وأن هذا التهديد مارسته الجماعات التكفيرية بشكل متطور ومدروس عن طريق الاستغلال المنظم لجميع وسائل الإعلام على الإطلاق من فضائيات وإذاعات ومنشورات وصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتبر الساحة الأبرز للتواجد الكثيف لفئة الشباب التي تستهدفها الجماعات التكفيرية بشكل خاص، وهي بذلك تضع يدها على واحدة من أهم أدوات الحرب الجديدة والتي أثبتت فاعليتها المطلقة في دول المنطقة والعالم.
هل لبى مؤتمر بهذا الحجم وعلى هذا المستوى طموح الرأي العام العربي المثقف بتقديم مقترحات وتوصيات لتفعيل وسائل تنظم العمل العربي المشترك كسن قوانين وتشريعات تلزم وسائل الإعلام العربية بها فلا يتم إعطاء التراخيص والترددات التي تمنحها الأقمار الصناعية لأي جهة إلا إذا حققت شروطا معينة تضمن تقديم خطاب إعلامي مدروس يخلو من التحريض على الكراهية ولا يمارس الحرب الدينية التي تتغذى على التفرقة الطائفية والمذهبية والصراع بين الأديان؟
من خلال متابعتي لعدد لا بأس به من جلسات هذا المؤتمر لاحظت ابتعاد الكثير من الأوراق عن تقديم أي محتوى يشخص المشكلة المطروحة كعنوان للجلسة أو يحاول تقديم الحلول لهذه المشكلة، وقدمت أوراق تحمل محتويات إنشائية وبلاغية وقصصية ومستهلكة تكاد لا تضيف للحاضرين شيئا مفيدا، ما عدا بعض الأوراق التي تعب المشاركون في تقديمها وعرضوا رؤية مبنية على دراسة فعلية احترمت وقت الحاضرين وعقولهم والتزمت بمناقشة موضوع المؤتمر. هذا بالإضافة إلى المحاضرات التي تقدم بشكل سرد لأحداث معينة تخطر ببال المحاضر في حينه دون أن يزعج نفسه بتحضير ورقة يقدمها للمؤتمر على الأقل من باب التوثيق. هل أصبح عقد المؤتمرات التي تقدم أوراقا ضعيفة ظاهرة يجب الوقوف عليها ومواجهتها بجرأة؟ ألا تخضع الأوراق المشاركة في المؤتمر للدراسة والتقييم من قبل لجنة متخصصة قبل إقرارها والموافقة عليها؟ أم أن هناك مجاملات واعتبارات معينة يتم مراعاتها وإن كان على حساب المضمون؟
اتسمت المؤتمرات العلمية على الدوام بطابع الجدية والتخطيط والتنظيم الذي يسعى لتحقيق أهداف محددة، فهذه المؤتمرات هي فرصة لمناقشة آخر ما توصل إليه العلم، فعمالقة العالم في الطب مثلا لا يبخلون بالمعلومات بل هم يتسابقون لتقديمها لجمهور الأطباء الذي يحضرون من كل مكان للاستزادة والاستفادة من جهابذة المعلومة والذين لا يمكن أن يجتمعوا في مكان واحد كما يجتمعون في المؤتمرات. يدفع الأطباء رسوم تسجيل لحضور هذه المؤتمرات كما تحظى بعض المحاضرات المكثفة والمتخصصة جدا ذات الجمهور النوعي برسوم إضافية يدفعها الحضور.
وبينما يتسابق المشاركون في المؤتمرات العلمية على حضور المحاضرات، نجد المشاركين في المؤتمرات الإنسانية يحرصون على التواجد في حفل الافتتاح الذي يقام تحت الرعاية الفلانية وبتواجد كثيف لوسائل الإعلام فتظهر صورهم عبر الشاشات وهم يستمعون لخطب المسؤولين الكثر الذين يتناولون الحدث بشكل عام، لتنتهي المظاهر الاحتفالية بوجبة الغداء التي تشهد حضورا شبه مكتمل عادة ثم يبدأ هذا الحضور بالتراجع والتقلص داخل قاعات المحاضرات لينحصر عدد الحاضرين جدا في محاضرات فترات ما بعد الغداء.
لا نريد التقليل من جهود القائمين على هذه المؤتمرات، ولكن نطمح لأن يسعى الجميع إلى أخذ هذه المؤتمرات على محمل الجد بصورة أكبر وأن تقدم فيها أوراق على أعلى المستويات وأن تسجل قاعات المحاضرات نسب حضور عالية تعكس الاهتمام الفعلي بالاستفادة من هذه الفرص. فمن حقنا أن نتوقع من مخرجات مؤتمر مهم كمؤتمر (دور الإعلام في مكافحة الإرهاب والتطرف .. الإعلام الافتراضي سلاح الإرهاب الجديد) أن تحدث فرقا واضحا ينعكس على أداء وسائل الإعلام كافة، خاصة وأن مثل هذه المؤتمرات هي فرصة للقاء أصحاب الفكر وقادة الرأي، بالإضافة إلى أن مؤتمرا بهذا الحجم عقد تحت مظلة الهيئة العربية للبث الفضائي المشترك وجامعة الدول العربية ينتظر منه أن يقدم حلولا عملية تمسك بزمام العملية الإعلامية كافة وتواكب متطلبات المرحلة في السيطرة على الفضاء الافتراضي الذي تفوقت فيه الجماعات التكفيرية وأثبتت جدارتها من خلال استقطاب الأعداد الهائلة من الشباب دون وجود ضوابط حقيقية توقف التدفق الهائل للخطاب التكفيري، ودون وجود خطاب معتدل بديل يتمتع بقوة ليحل محل الخطاب التكفيري المتنامي.
مؤتمرات كثيرة واجتماعات واستراتيجيات دون جدوى، فما هو على سبيل المثال لا الحصر أثر (الاستراتيجية الإعلامية العربية لمكافحة الإرهاب) والتي أقرها وزراء الإعلام العرب بجامعة الدول العربية في أيار من العام 2015؟ حان الوقت لتنظيف المحتوى الإعلامي العربي والارتقاء به لتقديم المعلومة الصحيحة ولتثقيف المتلقي ولبناء خطاب معتدل جامع يبحث عن العناصر الإيجابية المشتركة ويعظمها، ويبتعد عن العناصر المفرقة ويقدم البديل القوي عنها وأن يتم ذلك بإرادة حقيقية للدول العربية التي آن الأوان لها كي تقف بحزم أمام هذا التيار الجارف من الفوضى الإعلامية عن طريق سن القوانين الرادعة والتشريعات الملزمة وتطوير أخلاقيات العمل الإعلامي المنطلق من مبدأ المسؤولية والرقابة الذاتية وصحوة الضمير في مرحلة حساسة لا تحتمل الفوضى والعشوائية والتي إن لم نواجهها فعليا ستحملنا جميعا إلى منعطفات خطرة ونتائج لا تحمد عقباها.