شكل اغتيال الكاتب ناهض حتّر صدمة مدوية للنخبة الأردنية من سياسيين ومثقفين، فالأردن ورغم كل ما يحيط به من مخاطر وتحديات أمنية استطاع المحافظة على "حالة الاعتدال " في مراكز صنع القرار السياسي وفي الشارع وفي "الوجدان الشعبي" العام، واستطاع هذا الاعتدال المتراكم عبر عقود أن يحاصر مسألتين أساسيتين، الأولى هي التطرف السياسي وبخاصة "الاغتيال السياسي" الذي يشكل الشق المخيف والدموي من هذا التطرف، والمسألة الثانية هي الطائفية. فالأردن وفلسطين شكلا تاريخياً أنموذجاً للعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين والأمثلة على متانة وعمق هذا العيش لا تعد ولا تحصى. فالبعض يُشبه مسيحيي الأردن وفلسطين بأنهم "مسلمون يلبسون الصلبان".
لذلك، فان اغتيال ناهض حتّر كان صدمة مست الوجدان العام لكل أردني وأردنية، حيث حرك فيهم منظر الدم على عتبات "قصر العدل" الخوف الذي سرعان ما تحول إلى غضب، الخوف على اعتدالهم وعيشهم المشترك ومستقبلهم وأمنهم وأمانهم الذين يستثمرون فيه مستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة، والغضب حيال التطرف الدموي الذي نجح في سابقة مرعبة من أن يتسلل إلى ثوابتهم التاريخية ويمسها ويخدشها ويشوهها بالرصاص والدم .
وما زاد من فظاعة الجريمة هو تسيد خطاب الكراهية والبغضاء المشهد، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة عميقة لمعرفة سبب نشوئه ومنذ متي ولماذا؟. فقد كانت بعض التعليقات على حادثة الاغتيال على "الفيس بوك" من البعض صادمة ومقززة وتعبر عن أزمة فكر وضمير، وشكلت جريمة أخرى مكملة لجريمة القتل، وقد كتبت في واحد من تعليقاتي متسائلاً: "هل حقاً من يعلقون تعليقات الشماتة بالموت والفرح به هم أردنيون حقاً أم هم أبناء ثقافة وبيئة اجتماعية أخرى موجودة بيننا ونجهلها، وجاءت حادثة اغتيال حتر لتكشف عن هذا الجانب المظلم في بعض زوايا بيئتنا الاجتماعية والفكرية .
لقد تعاملت الدولة ومنذ اللحظة الأولى للاغتيال بحزم وإدراك كامل وواعٍ لتداعيات تلك الجريمة على مساحة الاعتدال المتاحة مجتمعياً وسياسياً، وعلى إمكانية خلق بيئة تؤسس لخطاب الكراهية والتنافر الاجتماعي، فقامت الأجهزة الأمنية بإحالة المغردين والمعلقين المسيئين للمرحوم ناهض حتر أو لدعاة الدولة المدنية واتهامهم بالكفر والزندقة إلى القضاء، باعتبار ما قاموا به جريمة تؤسس لجرائم أخرى منها القتل .
كما حسمت زيارة الملك عبد الله لبيت العزاء موقف الدولة المبدئي والحازم من هذه الجريمة باعتبارها بوابة كبرى للفتنة إن تركت دون معالجة حكيمة وسريعة تعيد للمجتمع شعوره العميق بالاطمئنان والألفة والعيش المشترك، كما كانت تعزية الملك بناهض حتر رداً سياسياً وأخلاقياً على دعاة الفكر المتطرف والظلاميين الذين يحاولون جر المجتمع الأردني نحو هاوية الانقسام على نفسه دينياً وسياسياً واجتماعياً.
وفي قراءتي لتلك الزيارة المهمة أنها انحياز ملكي للدم في مواجهة المسدس وآلة القتل، وانحياز كامل من جلالته لمدنية الدولة الأردنية في مواجهة مشروع "الدولة الدينية الاوتوقراطية" التي ينادى بها غلاة التطرف من الداعشيين.
لقد فرض اغتيال حتر طرح السؤال القديم – الجديد كيف يمكن مجابهة التطرف الفكري والسلوكي ومدى جدية وضرورة التحرك الرسمي والمجتمعي للإبقاء على مساحات الاعتدال والتسامح والتعايش في المجتمع الأردني على ما هي عليه بعدما حركت 3 رصاصات تلقاها جسد ناهض حتر الرائحة الآسنة في بعض زوايا المجتمع، وهي الرائحة التي برهنت على صحة النظرية القائلة "إن لا مجتمع خالياً من التطرف"، ولأن الأمر على هذا النحو فان المجتمع المتعافي هو القادر دائماً على تجديد حيويته والتخلص من أدرانه أولاً بأول من خلال زيادة مساحة الانفتاح والحرية والحوار، والأردن يملك الأدوات القادرة على تحقيق هذا الهدف.
24