"استشهادُ العدالةِ على مذبحِ العدالةِ"
د. محمود عبابنة
27-09-2016 11:51 AM
الحادثُ المفجعُ الذي هزّ ضميرَ ووجدانَ الأُردنيين وكلّ الأحرار في العالم، والذي أودى بحياةِ الكاتبِ والصحفيِ الأردنيّ كان سهماً مسموماً موجهاً إلى الوطن وثلمةً في ذاكرته ولحمته وسلمه الأهلي وطعناً لحرية الفِكر وإبداء الرأي وفوق ذلك كلّه موجهاً إلى سماحة الإسلام الذي نهى عن القتل وحسبُنا بقوله عليه الصّلاة والسّلام "من قتل نفساً بغير حق فكأنّما قتل النّاس جميعاً".
فمهما كان الفعل المنسوب لناهض حتّر، والذي قد يحتمل الإدانة أو عدم المسؤولية لارتباط ذلك وجوداً وعدماً بتوفّر "القصد الخاص" الذي يعني وجوب التّثبت من قصد النّاشر من وراء المشاركة بالنّشر وفيما إذا كان يقصد الإساءة أم أنّه مجرّد اجتهادٍ خاطئ لقيامه بنقل رسم كاريكاتيريّ إلى صفحته، والذي لم يقم هو برسمه.
والقاعدة الفقهيّة تقول:(ناقل الكفر ليس بكافر)، كما أنّه لم يؤيده بجملةٍ واحدةٍ، وقد أزاله بعد وقتٍ قصيرٍ واعتذر لكل من شعر بمساسٍ بمعتقده الدينيّ. لو كان ناهض يقصد الإساءة لما أدان رسّام الكاريكاتير الدنماركيّ الذي نشر صورا مسيئة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يتحقّق القصد الخاص ويبقى هذا اجتهادنا.
ما أضفى على مشهد الاغتيال السياسيّ المأساويّ بشاعةً وبربريّةً أن ناهض حتر الذي ذهب وبرفقة ولده إلى المحكمة بصدر مفتوحٍ واثق الخُطى بدون حراسةٍ من الأجهزةِ الأمنيّة، وهو المهدّد بالقتل ليمثل أمام القاضي طوعاً واختياراً لأنه كان يؤمن بدولة القانون والمؤسسات والحق وعبّر عن رضاه وثقته في قضائنا النزيه، إلاّ أنّ الكاتب التقدميّ خرّ صريعاً بفعل رصاصات الغدر من شخصٍ مأفونٍ بفكره الظلاميّ والهمجيّ على عتبات مذبح العدالة لتذبح العدالة من الوريد إلى الوريد، وكما خذله اجتهاده الخاطئ بنشر الكاريكاتير خذله استشرافهُ فظهر له من تحت الأرض من نصّب نفسه محققاً وقاضياً وجلاداً ومفوّضاً إلهيّاً بإنزال عقوبة الإعدامِ، فهو لا يعترف لا بالدّولة ولا بالدستور ولا بالقانون ولا بالقضاء ولا بقيمة الحياة الإنسانيّة.
أكتب عن ناهض الذي عرفته زميلاً في الجامعة الأردنيّة وزميلاً في رابطة الكتّاب. صحيح أنّنا اتفقنا واختلفنا في الكثير أيضاً حول مشاكساته الأدبية، ولكنه رغم ذلك بقي في عيون من يعرفه بأنه قارئٌ نهمٌ تناول قضايا الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ على المستوى العربيّ ومناضلٌ شرسٌ في حبه لبلده وعلى طريقته ومنافحاً في سبيل الحرية والديمقراطية مهاجماً للسياسة الإمبرياليّة على حد قوله ومؤيداً لحزب الله وللنّظام السوريّ وهذا حقّه وتلك قناعاته ولا تثريب على ذلك.
لا يكفي أن نكتب عن الجريمة ونستنكرها وقد فعل الكثيرون ذلك إلاّ أنّه قد آن الأوان لندرك بأن هناك خلايا نائمة أعلنت عن وجودها علانيةً بالقول والكتابة على الفيسبوك والمنابر الأخرى حتى وصل الأمر إلى تجسيد ذلك بإطلاق الرّصاص وتأليب النّاس على بعضهم البعض في مجتمعٍ كنّا حتى يوم الأمس نتباهى بوحدته الوطنيّة ونسيجه الاجتماعيّ المتماسك. ولا يخلو خطابٌ لجلالة الملك في المحافل الدوليّة عن الإشارة إلى هذا المنجز، ممّا يستدعي إعادة بناء الثّقة بين أبناء المجتمع من خلال نشر الوعي بالحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة وحرية إبداء الرأي واحترام الرأي الآخر واعتماد منهج المحاورة وهذه بحاجة إلى إجراءات عملية يجب أن تترجم بالتّشريعات وملاحقة أصحاب الأفكار الظلاميّة ووضعهم تحت المراقبة لأنّنا لو فعلنا ذلك لخطيب المسجد المطرود فلربّما تجنّبنا هذه الفعلة الشنيعة، كما نطالب بجعل تهمة التّكفير جريمةٌ معاقباً عليها، حيث من الصعب أن يتقدّم أيّ مجتمعٍ وهو مكبلٌ ومهددٌّ من أصحاب الفكر الظلاميّ والإقصائيّ الذي عرّفناه منذ أمد، وكما قال الوزير السّابق مازن السّاكت: الذي قتل معاذ الكساسبة هو الذي قتل ناهض حتّر.
أنا أجزم أنّه لم يكن لدين ناهض أيّ مساهمةٍ في اغتياله فلقد قتله فكره السياسيّ الحر وقناعاته ووجود الجماعات المُتطرّفة التي لا تقبل الآخر، والتي يعلو صوتها في غياب قوى الرّصد والمتابعة والملاحقة، ولا نريد أن نصحو على يوم أسودٍ آخرٍ يصرع مفكراً أو ناشطاً أو صاحب فكر تقدميّ وتنويريّ، وهذا ما حذّر منه الكاتب النّجيب ورئيس جمعية الحوار الوطنيّ محمد داوودية الذي كان يحذّر من تفشي الفكر الداعشيّ الظلاميّ الذي أودى بحياة الكاتب الأردنيّ الوطني التقدميّ ناهض حتر.