هل ثمة موجة واحدة في البحر؟
حلمي الأسمر
27-09-2016 12:52 AM
يحلو لي بين حين وآخر أن أعود إلى قراءة كثير مما أكتب، بعين آخرى، باحثا عن فهم أكثر للمشهد العربي، وعجائبيته التي قد تستعصي على الفهم في كثير من الأحيان، سؤال «شو في ما في؟» في بلاد العرب مثلا، سؤال طُرح على جهاز الكمبيوتر، في سياق نكتة تُروى، فانفجر الجهاز ولم يحتمل السؤال، والحقيقة أن هذا السؤال دائم الطرح من قبل من يتطلعون لمعرفة ما يجري، خاصة حينما يقابلون إعلاميا، أو شخصا يفك الحرف ويتابع الأحداث، وتختلف الأجوبة عادة، وفقا لمستويين من المتابعة، المستوى الأول، من يعتبرون أنفسهم جزءا من الحدث السيار، الذين يتعقبون القصص الإخبارية من خلف الستار ومن أمامه، ويعملون على التواصل الحار مع من يلعبون على المسرح وخلف الكواليس، وهؤلاء أشبه ما يكونوا بآلات التسجيل الصماء، فهو جزء من اللعبة وعادة ما يُلقنون ما يُراد أن يصل إلى جمهور القراء، أو السميعة ، بل ربما يتم تسخير هؤلاء لكي يسعوْا بين الناس بما يجب أن يسود من علم، وما يجب أن لا يعرفه أحد، أما المستوى الثاني، فهو من ينأون بأنفسهم عن الاستغراق في التفاصيل، وإرخاء السمع للقيل والقال في دواوين السياسة، والنميمة، التي يحلو للمتقاعدين من الفعل والحياة ربما أن يرتادوها، ويحاول هؤلاء عدم الغرق في تفاصيل الأحداث، كي يتمكنوا من تحليلها، والخروج برؤى أقرب ما تكون الى الاستشراف، والتنبؤ بالمستقبل..
المثل الأكثر تمثيلا لهذا التنظير، يبدو بشكل جلي، لمن تصدوا للحديث أو الكتابة عن ظاهرة اصطلح على تسميتها بـ الثورات العربية أو ثورات الربيع العربية ولا أجد قضية اختلف الناس في تقويمها، ووصفها، مثل هذه الظاهرة، بل إن القوم ليختلفون على التسمية ذاتها، فهم بين ساخر منها ولاعن، وبين مادح ومستبشر، ولعل سبب هذا التباين في موقف الناس من هذا الملف، أن جميع من تحدث فيه، كان غارقا في الحدث، على نحو أو آخر، بمعنى آخر، إننا جميعا كنا جزءا من هذه الثورات ، سواء من شارك أو وقف متفرجا، من استبشر ومن ابتأس، من وقف ضد أو مع، من قاومها ومن سحقت جمجمته لأنه جزء منها، كل هؤلاء كانوا على نحو آخر جزءا من العملية، لذا، يصعب على أي منهم أن يقومها على نحو محايد، وعلمي، بل إن تفاعلات هذه الثورات لم تزل قائمة، ونتائجها لم تحسم بعد، لذا، من الصعب على أي مستشرف أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأحداث في المآلات النهائية لهذا الحدث الضخم، الذي لم ينته بعد، ولن ينتهي في القريب العاجل، بدليل أن الساحات التي ضربها هذا الحدث، لم يزل بعضها ككرة من لهب، فيما لم تستقر الأوضاع في بعضها الآخر، ولم تأخذ شكلها النهائي بعد، كما أن من قاومها بقوة، لم تزل أصابعه على الزناد، مستنفرا خشية أن يتجدد أوارها.
ما يغيب عن ذهن من يسارع إلى الحكم على تلك الظاهرة الفريدة، سلبا أو إيجابا، أنها كانت حراكا سياسيا واجتماعيا معقدا جدا، ويلزم لتحليله ودراستها واستشراف مآلاته الحقيقية أن يمر وقت طويل، لتبرد الرؤوس التي تفكر فيها، أو كانت جزءا منها، مشاركة أو مقاومة، ولكل حساباته ومصالحه، ولكن ما لا خلاف عليه لدى أي من هذه الأطراف، أنها كانت حدثا كبيرا، يحمل من الأسرار أكثر بكثير مما يحمل من المعلومات المعروفة!
بمناسبة حلول فصل الخريف، يثور السؤال مجددا: هل كانت الثورات العربية ربيعا أم خريفا أم شتاء؟ أم مزيجا معقدا من كل هذه الفصول؟
ما هو مؤكد أن أحدا لا يستطيع القول أن هناك «موجة» وحيدة تعبر البحر لتستقر على الشاطىء، دون أن يتلوها موجات أخرى، إنه قانون البحر الذي يُخفي عادة أكثر بكثير مما يُظهر، وكذا هي المجتمعات البشرية!
الدستور