سمعنا صوتك .. (مــاع .. مـــاع) ..
جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الأردن بعد عيد الأضحى مباشرة؛ وعند الربط بين المناسبتين نلاحظ انخفاض أسعار الخرفان إلى حوالي 200 دينار للخروف، وارتفاع سعر صوت الناخب الواحد إلى 100 دينار. هذا مع العلم بأن الخروف هو أضحية مباركة لعام واحد، في حين أن الناخب يبيع صوته لأربع سنوات، وبسعر لا يزيد عن 25 ديناراً للسنة البرلمانية الواحدة، وبلغة السوق وآليات العرض والطلب، فإن الخروف يساوي ثمانية ناخبين باعوا ضميرهم الإنساني؛ إما بسبب تفاقم الفقر، أو نقص الكرامة. فكيف ينظر دعاة الديموقراطية وعلماء الاقتصاد وفلاسفة الأخلاق إلى صفقات شراء وبيع الأصوات؟
هدف الديموقراطية ليس العدالة المطلقة، وهي ليست الطريق الوحيد لتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص. فوفقاً لأرسطو فإن العدالة تتحقق عندما "نعطي كل إنسان ما يستحقه، وليس كل ما يريده ويطلبه. لأن المجتمع العادل يُمَّكن مواطنيه من إنسانيتهم ليعيشوا حياة خيرة، ولذا، فإن الممارسة السياسية ليست مجرد طريقة لتحقيق مصالحنا، بل هي عنصر أساسي في مكونات الحياة الكريمة."
شراء وبيع الأصوات يتعارض مع القيم السماوية والإنسانية السامية، ويضرب بفلسفة الأخلاق عُرض الحائط، لأنه يرسل إلى البرلمان النواب الأكثر قدرة على شراء الناخبين، فيعطيهم مميزات تزيدهم ثراءً وتزيدُ بائعي الأصوات فقراً. النائب الرأسمالي الذي يستخدم ماله السياسي في الحصول على الحصانة، وبفكره الاقتصادي المنصَّب على الربح والخسارة، سوف يسعى إلى تحقيق عائد على استثماراته الانتخابية، فيبيع ضميره السياسي مسلحاً بعقليته التجارية المجرَّدة، ويطبق آليات السوق على قراراته البرلمانية (التي هي في جوهرها اقتصادية) ويَخضع للسلطة التنفيذية التي ستراقبه قبل أن يراقبها، وتحاسبه بدلاً من أن يُحاسبها.
كتبت سابقاً عن خطورة بيع الشهادات الوهمية، وقلت بأن تجارة الشهادات أخطر من تجارة المخدرات. ففي زمن صار فيه المال يشتري كل شيء؛ بدءًا بأولوية المرور وحق السبق في الطابور، إلى الأعضاء البشرية، والمتع الحسية، بتنا نعيش في مجتمع يتشيأ فيه الإنسان (يصبح شيئا) ويتسلع (يصبح سلعة)، وهو مجتمع مادي يعمل لصالح السوق؛ أي أن المجتمع صار يخضع لقوانين العرض والطلب ويخدم السوق، بدلا من توجيه السوق ليخدم المجتمع.
في صفقات الأعمال التجارية؛ يكسب البائع أولاً، والمشتري ثانياً، والمجتمع ثالثاً.
في صفقات بيع الكلى: يكسب المشتري أولاً، والبائع ثانياً، والمجتمع أحياناً.
في صفقات بيع المخدرات: يكسب الزارع أولا، والبائع ثانيا، ويخسر المشتري والمجتمع معاً.
في صفقات بيع الشهادات: يكسب البائع فقط، ويخسر المجتمع أولا، والمشتري ثانيا.
وفي صفقات بيع الأصوات: يكسب النائب ويخسر الناخب، وتكسب الحكومة، ويخسر المجتمع.
في كتاب "العادة الثامنة" كتب "ستيفن كوفي" فيلسوف القيادة المرتكزة على المبادىء يقول: "اعرف صوتك، والهم الآخرين ليعرفوا أصواتهم." أي: اعرف ذاتك وساعد الآخرين على معرفة هوياتهم، لأن الصوت يرادف الوجود، وهو جوهر الكيان الإنساني، وهذه المعرفة هي طريق الإنسان الوحيد نحو الرقي والعظمة. ولذا فإن صوت الإنسان هو طريقه إلى الإيمان، وآيته ومصدره الضمير، وهو البوصلة والحاسة الداخلية القادرة على الإنصاف والتمييز بين: الخير والشر، وبين الحق والباطل.
عندما تُدلي بصوتك، فإنك تعبر عن ضميرك الحي، فالضمير الميت هو النفس الأمارة بالسوء، والضمير الواعي هو النفس المطمئنة، وهو الذي يقودك نحو الرقي والنبالة والسمو، وإلى مستوى أعلى من التفكير يجعلك تشعر بنبض الجماعة وبأهمية الآخر ودوره في المجتمع. ولذا فإن من يملك صوته ويحكم ضميرة؛ يرى الحياة من منظور المشاركة والرفاهية الاجتماعية، وليس من منطلق المجد الشخصي والمتعة الذاتية.
من يبيع صوته، يتحول من إنسان موجود إلى شيء مفقود، ومن عنصر اجتماعي عفيف ونظيف، إلى خروف ضعيف، وبدلا من أن يقول: أنا إنسان، ويستشعر ويستشعر ما في حياته من معنى، فإنه يفقد قيمته بعدما فرَّطَ بقِـيَمه، ولسان حاله يقول: "مـــاع .. مـــاع".