من المفارقات التي لا يكاد يعرفها أحد، أنني كنت زميلا للكاتب ناهض حتر، ونحن على مقاعد الدراسة الجامعية، وكان ثالثنا الكاتب الساخر محمد طمليه، وكان الاثنان اللذان رحلا كلاهما عن هذه الدنيا مهتميْن جدا بتنظيم أمسية شعرية لي، وأنا على النقيض من خطهم الفكري والعقائدي، لكن هذا لم يمنعهما من التواصل معي ونشوء علاقة زمالة حقيقية بيننا، ولم يمنعهما الخلاف الفكري بيننا من تنظيم هذه الأمسية!
ظلت علاقتي بناهض محدودة، وإن استمرت مع محمد حتى وفاته، وفي المرات القليلة التي التقينا فيها أنا وناهض فيما بعد، كنا نتبادل عبارات المجاملة لا غير، لكنني ظللت اقرأ ما يكتبه ناهض، بما في ذلك الرسم الكرتوني القبيح، الذي أودى بحياته، على فيسبوك، صحيح ان جل ما كتبه ناهض كان يثير في نفسي الكثير من الاعتراض، لكنني لم أعتقد ولو للحظة أن نشاطه الكتابي يمكن أن يكون سببا في مقتله، رغم حملات التحريض التي رصدُتها على منصات التواصل الاجتماعي، فمواجهة القلم بالقلم، لا بالرصاص، أشعر بأسى عميق لمقتل ناهض وهو أمام قصر «العدل!» فليس عدلا أن تقتل كاتبا كائنا من كان، وهو متوجه لحضور محاكمته، وقبل أن يصدر الحكم عليه، ومهما كانت ديانة القاتل، أو لنقل المتهم بالقتل، فليس ثمة مبرر للإقدام على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء، حتى ولو ألحق هذا القاتل بالإسلام والمسلمين، لأن الإسلام بريء من هذا السلوك المشين، فقد قال تعالى في محكم التنزيل (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) فبأي حق يُقتل من لم يزهق روحا، حتى ولو تطاول على الخالق جل وعلا؟ والحقيقة المريرة التي نعلمها جميعا أننا كثيرا ما نسمع في الشارع شتم الذات الإلهية بألفاظ تقشعر لها الأبدان، وهو عمل يفوق قبحه بمراحل ما أعاد نشره ناهض، ولم نسمع أن أحدا ممن تجرأ على هذا الفعل القبيح تعرض للقتل!
من الغريب أنني قرأت خلال رصدي للجدل على شبكات التواصل الاجتماعي تأييدا لجريمة القتل، وتشفيا مستغربا، كما قرأت مواقف أخرى مناقضة بلغت حد إعادة نشر الرسم اللعين، كنوع من «التضامن» مع القتيل، وكلا الموقفين مرفوض بشكل مطلق، وليسا بالطبع من باب «حرية الرأي!» المتآمر عليها تقريبا من كل الأطراف!
ناهض صاحب قلم، كنت معه أو ضده، لك أن تعلن ذلك، وتحاججه بالقلم، وتقسو عليه بالكلام، أما أن تقتله فهذا الموقف جزء مهم من وصفة لتحويل المجتمع إلى غابة، وإن كان من درس بليغ علينا أن نتعلمه من واقعة القتل المؤلمة، فهو أن نحترم عقائد الناس، ولا نمس مقدساتهم، بدعوى حرية الرأي، فبيننا من لا يؤمنون بالنقاش، بل لا يعرفون ما معنى نقاش، ومن السهل استفزازهم وتعبئتهم، ومن الأفضل بل يجب أن نحتفظ في كتاباتنا بالاحترام المطلق للمقدس في حياتنا، كي لا نغذي ما يسمونه التطرف، وأن نكف عن مهاجمة هذا «الصنم» الجديد وهو التطرف، بطرق يفهم منها أنها هجوم على الدين نفسه لا «المتطرفين» وكأن البعض اتخذ هذه الشماعة للتطاول على مقدسات الأمة، وعقيدتها!
الدستور