هو سطر الهامش الذي نكتب عليه شرحنا وجرحنا بعد أن أرهقنا نَصُّ الصيف الطويل ، هو الذي نمحو فيه مفردات القيظ بممحاة الغروب الطري، هو البوابة الكبرى بين حارتين ، والاستراحة القصيرة بين شوطين ، وهو حدّ الشوق بين وطنيي الجفاف والمطر..هو أيلول الذي يحمل أجراسه من ورق العنب الجاف والتوت الملوّن ليقرع فيها مساءاتنا البرتقالية ، تخشخش على زجاج نوافذنا المغلقة في وجه التراب المسافر كأساور عروس يافعة ثم تتركنا ساهرين..
في أيلول تعاند الريح المسائية ريش الفراخ الصغيرة فتنتفش كطاووس، تعبث بسكون ماء البئر فترتعش وتموّج صورة الدلو المدلّى كقمر أسود ، تحرك سارية العلم في مدرسة طالت عطلتها ، تسرق أوراقاً من شجر اللوز الوقور لتهديه للطريق، ترش بعض الندى على وجه الوسائد المنسية في العرائش فيستيقظ الحلم..
في أيلول ...ينبت الرمان كأجرار عسل على بسطات الباعة ،موحّد اللون والحجم والهيئة ككتيبة عسكرية ، يلمّعونه كل حين كقطع التحف النادرة ،يتعرّق عسلاً حلواً دونما ضجر، لا أحمر ولا أصفر هو بلون الخجل ، كيف لا وأمه الصيف وأبوه الشتاء ، في قلبه ذهب الصمت ، وصبغ قشره حنّاء.. الرمان ابن أيلول يفتح قلبه لمن يضمه بيديه، ينثر أسراره بين أصابع كفيه ،يروي من سبّح بعشقه لحظة اللقاء ، ثم يغادر الموسم على استحياء...
أيلول شهر الحالمين ، انعقاد برلمان العاشقين ،شهر الطيور المهاجرة من غير جواز سفر ، شهر المؤمنين أن الحب مجرّد قضاء وقدر..شهر الزخات المفاجئة من غير غمام، شهر الدموع المفاجئة في غمرة الابتسام...شهر الناسين أصابعهم بين فصول الكتب، الناظرين إلى جفون المساجد حيث يغالب النعاس القبب ، إلى السرو الذي يحرس كالرموش عيون المدينة .. الى الورق الساقط من كروم العنب ..
شهر أيلول..شهر فيروز وشهر الأوجاع الرزينة...فكلما سمعتها تغنّي "رجع أيلول" تذكرّت ان قلبي ليس الا "غيمة حزينة"!!..
الرأي