ما زالت الإشارات المتناقضة تغرق المحلل السياسي والعسكري العربي في بحر لا قرار له بعد أن باتت ثورة الاتصالات مصدرا للتيه لا للتنوير.بعد خطاب الملك عبد الله الثاني في الكونجرس في يناير الماضي وانعقاد قمة الرياض الأسبوع الماضي وسلسلة التحركات الأمريكية والأوروبية على مستوى القيادات السياسية والبرلمانية وحتى الأمنية إلى المنطقة شاعت أجواء من التفاؤل بوجود صفقة سلام قريبة في الشارع العربي-الإسرائيلي تقوم على الثوابت العربية المتفق عليها وأهمها الحدود واللاجئين والقدس، ولكن ذلك سرعان ما تراجع أمام عدد من الأحداث الهامة منها:
- تصريحات رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال عاموس يدلين بالأمس أمام جلسة الحكومة الإسرائيلية بأن سوريا وحزب الله وإيران يستعدون لمواجهة حرب أمريكية ستشن عليهم هذا الصيف، ودعوته الحكومة الإسرائيلية إلى ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذا الموقف دون إرسال إشارات خطأ إلى الدول الثلاث بأن إسرائيل ستشارك في تلك الحرب.
- اختراق طائرتين حربيتين أمريكيتين الأجواء الإيرانية أمس الأول دون أن تكون الرادارات الإيرانية قادرة على التقاط ذلك الخرق، حيث تم اكتشاف الموضوع بفضل الأهالي الذين لاحظوا آثار الدخان الأبيض وليس بفضل الجيش، وهو ما يرسل بإشارات خطرة مفادها ضعف تجهيزات الإيرانيين على صعيد الرادارات، مما سيجعلهم لقمة سائغة في براثن الطيران الأمريكي.
- تحذير العاهل السعودي الرئيس الإيراني نجاد قبل أقل من أسبوعين من خطورة تجاهل بلاده التهديد العسكري الأمريكي وتنبيهه إلى ضرورة التعامل مع ذلك التهديد بالجدية اللازمة، ودعوته إلى تأجيل طموحات بلاده النووية ولو بضع سنوات تفاديا لضربة أمريكية شديدة الاحتمال. - تحذير قائد الأركان الإيراني الدول العربية من احتمالية شن إسرائيل هجمات عسكرية مكثفة على كل من سوريا ولبنان قد تمتد إلى الأردن ومصر والسعودية، وهو تحذير تنقصه الكثير من المنطقية في التفكير، ولكنه يستند إلى معلومات جزء منها صحيح، وإن كان الخيال يسبغ بقيتها.
- التصريحات الروسية قبل ثلاثة أيام بإمكانية قبول روسيا نشر درع الصورايخ الأمريكي الذي طالما عارضت نشره على أراضي بولندا والتشيك على أرضها ذاتها، إن تم التفاوض على ذلك مع الأمريكيين بالشكل اللائق.
- وضع خطة الدرع الصاروخي الأمريكي رسميا على جدول أعمال المفوضية الأوروبية القادم لمناقشتها وربما إقرارها.
- عودة قصة المحكمة الدولية بقوة إلى خطاب الأمم المتحدة ممثلا في زيارة بان كي مون إلى لبنان وتصريحاته الحادة هناك والتي أنذر فيها الفرقاء اللبنانيين بضروة حسم الموقف تجاه المحكمة بالإيجاب، وإلا تولت الأمم المتحدة الملف كاملا دون الرجوع لأي طرف لبناني، باستثناء من تجده هي مؤهلا لذلك. ومهاجمة أحد المسؤولين السوريين الكبار الخميس الماضي تقرير براميرتس رغم وصفه سابقا بالمهنية من قبل نفس المسؤولين السوريين.
- تأخير وإيقاف كافة جهود إعادة الإعمار في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب اللبناني، بدعوى استشعار الأطراف اللبنانية وجود نية لشن حرب جديدة على لبنان هذا الصيف، وقد استمعت شخصيا إلى العديد من الشخصيات اللبنانية الهامة خلال الأيام الماضية تؤكد جميعها توفر معلومات لديها أو ربما "أحداس" بشأن الهجوم القادم.
- الحراك غير الطبيعي الاستباقي لضم كركوك إلى كردستان وإغراء العرب على تركها مقابل تعويضهم ماليا، وهو ما يشير إلى رغبة الأكراد في استغلال الموقف المتأزم حاليا لفرض أجندتهم بضم تلك المنطقة النفطية الثرية إلى الدولة الكردية المزمعة وعزل تلك الثروة الهائلة عن دولة العراق تمهيدا لتقسيم الثروة بين الجنوب الشيعي الموالي للأمريكيين والشمال الكردي الموالي أيضا للأمريكيين وإبقاء الوسط والغرب السني دون موارد نفطية، وهو ما يخدم رؤية الأمريكيين في حماية موارد النفط في وجه الصراعات الأسوأ القادمة.
- عودة المفخخات وأعمال القتل والتعذيب الطائفية بقوة إلى الشارع العراقي وتصاعد حدتها في مارس قياسا بشهر فبراير الماضي، وهو ما يوحي بتراخي قبضة الأمريكيين من جديد في خطة بغداد الأمنية الشهر الماضي مقارنة بالشهر الذي سبقه وهو ما يمكن فهمه باعتباره انشغالا في اتجاهات أخرى قد تكون التجهيز للحرب القادمة على سوريا ولبنان وإيران، خاصة في ظل تواصل قدوم الجنود الأمريكيين والمعدات والآليات إلى الخليج.
صحيح أن بعض المؤشرات السياسية والدبلوماسية ربما تبدو متناقضة مع تلك الدلائل، ومنها إشعار بشار الأسد في قمة الرياض بعودته إلى الصف العربي، خاصة وأن القمة القادمة ستنعقد في دمشق، ومنها حضور وزير خارجية إيران القمة، ومنها دعوة أولمرت الدول العربية المعتدلة إلى عقد مؤتمر سلام تتفاوض فيه معها مباشرة، وتكثيف الدول العربية جهودها لتسويق المبادرة العربية للسلام دوليا، وانهمار ردود الأفعال المؤيدة أوروبيا للمبادرة وكأنها تقدم للمرة الأولى أو يعاد اكتشافها، إلا أن كل ما تقدم يصب على الأغلب في إطار طمأنة بعض الأطراف المعنية إلى أنها لن تكون عرضة لأي هجوم خلافا للنية الحقيقية لإدارة بوش وربما أولمرت اللتين لم يعد لديهما ما تخسرانه بعد أن خسرتا كل أسهمهما في الشارع.
لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تكون منهمكة حقيقة في جهود دبلوماسية لدفع عجلة السلام وإعادتها إلى مسارها المتوقف وتكون في الوقت ذاته منهمكة في الإعداد لحرب ضروس على بعض دول المنطقة، والأقرب إلى الصواب أنها تكذب بشأن واحد من الملفين: ملف السلام أو ملف الحرب، وأنها تماطل وتكسب الوقت للوصول إلى مآربها بعد إعادة جزء ظاهري من الدور المفقود لبعض شركائها في المنطقة الذين أساءت إليهم بخطواتها الأحادية المنفردة.
أغلب الظن أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم السلام غطاء مؤقتا لتمرير آخر مشاريع الإدارة الحالية الخطرة على منطقتنا بكل المقاييس والتي تسعى إلى عسكرة العالم وفرض الفوضى الهدامة (وليس الخلاقة) على دول المنطقة في محاولة أخيرة لتنفيذ مخططاتها الجيوستراتيجية الجهنمية وإعادة بناء نظم المنطقة بما يتلاءم مع رؤيتها الاستراتيجية التي لم تثبت حتى اليوم إلا فشلا بعد فشل .