عندما يقرر جنرالات الموت قرع طبول الحرب، عندما يزجون بالإنسان لقتل أخيه الإنسان، عندما يعلو صوت الرصاص فوق صوت الحضارة، وعندما يتراجع الحب ليتقدم الكره، يُزج بالجنود في أتون المعارك، تحرك قادتهم أسباب كثيرة فواحد يحارب باسم الوطن وآخر يحارب باسم الدين وكاذبون يحاربون باسم نشر العدالة والديمقراطية، بينما كلهم عبيد تحركهم سطوة المال والجاه وسحر القوة.
عندما يتوه الجنود وراء غبار المعارك، يتذكرون أحبابهم، يقبلون صور زوجاتهم وأطفالهم ويكبر داخلهم سؤال: هل سنعود؟ هل بقي لنا في هذه الحياة متسع؟ لماذا نحن هنا؟
يُقتل الجنود على مرأى ومسمع بعضهم البعض، فهذا يموت حرقا، وذلك تبتر ساقه أو يده، وذاك تخفي قنبلة أي أثر لوجوده، فيرحل منهم من يرحل، ويعود منهم من يعود مثقلا بالتساؤلات، يصارع ذاته ولا يجد أجوبة على أسئلة كثيرة يعلو صوتها في رأسه ولا تكف عن الضجيج، فلماذا بقي هو ومات زملاؤه، لماذا سيواجه الحياة بدون ذراع أو بدون ساق أو بتشوه سيحمله معه كل يوم حتى آخر لحظات حياته، ندوب كثيرة ستبقى داخله، فهو قد تسبب بموت أحدهم على الجانب الآخر، إنسان لا يعرفه ولم يكن ليضيره لو بقي على قيد الحياة، ولو عاد هو الآخر لزوجته وأولاده، فلماذا قتله إذا؟.
يبدأ الصراع يكبر داخله، وتبدأ الحرب الأصعب، تلك الحرب التي تشتعل داخل نفوس هؤلاء، حرب مع الحقيقة، حرب مع التساؤلات، حرب مع الذات، لماذا قَتَل الآخرين؟ لماذا يَتّم الأطفال ورمّل النساء؟ لماذا دمّر؟ كيف تحول إلى وحش ولمصلحة من؟ عندما تتجلى الحقيقة أمام عينيه يدرك أنه لم يكن إلا أداة قذرة استعملها قائد قذر لتنفيذ مهام قذرة، يدرك أنه مجرم بحق نفسه قبل أن يكون مجرما بحق الآخرين، فهو لا ناقة له ولا بعير بكل المعادلات التي تحرك أصابع الجنرالات من وراء مكاتبهم، فقط ليأمرون الآخرين بالقتل وتنفيذ الأجندات الملوثة بينما تبقى أيديهم غير ملطخة بالدماء وبدلاتهم لم يغطيها الغبار وأزرارهم الذهبية ونياشينهم اللامعة براقة فوق أكتافهم وعلى صدورهم.
عانت البشرية من ويلات الحروب والصراعات منذ الأزل ولكن التطور في أدوات القتل والتدمير سهل كثيرا مهمة الموت الذي لم يعد حاضرا فقط لأولئك الذين يملكون شجاعة المواجهة والقوة البدنية بل أصبح رهن إشارة الجبناء أيضا، فما على الكثيرين في الآونة الأخيرة إلا استدعاء الموت بكبسة زر فيكون رهن إشارتهم. فتوسع مفهوم الحرب وتوسعت دائرته فظهرت مصطلحات جديدة أضفت صورة العالمية على الحروب، فكانت الحرب العالمية الأولى التي حصدت من الأرواح ما حصدت ودمرت ما دمرت ليؤدي ذلك إلى تطوير أدوات عشاق الدماء لتخلق أسلحة الدمار الشامل والتي تم استخدامها بكل جبن وخداع وبكل ما هو مناف للأخلاق والاعتبارات الإنسانية التي يجب مراعاتها حتى في الحروب، فقد قتلت القنابل ما يصل إلى مئة وأربعين ألف شخص في هيروشيما، وثمانين ألف شخص في ناغازاكي بحلول نهاية عام 1945، بالإضافة للأعداد الأخرى التي تمت سرقة الحياة منها من جميع الأطراف قبل لحظة الحسم الدامية التي فرضتها القنابل النووية.
لم يغادر الإنسان مربع الحروب أبدا حتى خلال السنين التي تلت الحربين العالميتين فظهرت الحروب الباردة لتكون عونا لأخواتها الحروب الساخنة، واختلفت أشكال الصراع اللاإنساني للفوز بالسيطرة والهيمنة على العالم حتى انتهت بتفوق أحد قطبي الصراع على القطب الآخر، ولكن حتى هذا التفوق لم يحجّم الرغبة التواقة للحروب والصراعات لدى الوحوش التي تعيش في نفوس مافيات الموت، فبدأت الأنظار تتجه لخلق أعداء جدد توجه لصدورهم البنادق فظهر شبح الإرهاب ليفرض على المشهد أدواته الجديدة للقتل وامتهان الإنسانية بحجج تغلفت بالإنسانية، فانطلق الوحش القابع في النفوس الشريرة وانفلت من عقاله ليجمّل القتل ويضفي عليه الشرعية. لقد خلق هذا الوحش جماعاته واستخدمها ثم حاربها بعد أن إنتهت حاجته إليها ثم خلق نسخا عنها تحت مسميات اقتضتها الحاجة في كل مرة ثم تفوق الشر على نفسه عندما توصل لفكرة أن تقتل الجماعات المعادية له بعضها بعضا ليتخذ هو لنفسه موقف الموجه والمرشد للقتل ليتم بأقسى صورة ممكنة وليعطي أفضل ما يمكن الحصول عليه من نتائج، فعمت الفوضى العالم وشردت شعوب وانتشرت رائحة الموت حتى وصلت للسماء أما الأرض فقلبت رأسا على عقب ومحيت ملامحها ليرسمها الشر من جديد وكما يرى هو ويطمح.
أطراف هذه الحروب من بني البشر عانوا الويلات سواء كانوا معتدين أو معتدى عليهم، أما المعتدى عليهم فهم إما قتلوا أو شردوا أو خسروا فرصتهم بالحياة بطريقة أو بأخرى، ولكن ماذا عن اولئك المنتصرين هل احتفلوا بنصرهم المؤزر الماثل أمامهم على شكل موتى وجرحى ويتامى وأرامل وحضارات لن يعرف عنها الإنسان شيئا بعد اليوم بعد أن حرقت أثارها. كيف يتابع هؤلاء حياتهم بعد الحروب؟ هل المحارب قبل الحرب هو ذات المحارب بعد الحرب؟ ما يسمى بلعنة الحرب على العراق قادت حتى العام 2005 إلى جعل أكثر من ستة آلاف وأربعمئة جندي ومجندة أمريكية يضعون حدا لحياتهم للخلاص من صور الموت في ضمائرهم، هذا ما نعرفه من احصائيات لدول يهتم الباحثون فيها لإجراء الدراسات وتقييم التجارب، ولكن ماذا عن بقية الدول؟ ماذا عن أولئك الذين يزجون في الحروب عن طريق غسل أدمغتهم، كيف يشارك هؤلاء في الحروب؟ وكيف يتطور سلوك الناجين منهم؟ ما هي طبيعة الصراعات النفسية التي يعانون منها عندما ينظرون من بعيد ويرون المشهد بصورة أشمل وأوضح؟
كم من قصة حب قتلتها الحرب، كم معنى للحياة شوهته الحرب، كم من الحضارات اندثرت تحت ركام الدمار في وطننا العربي الجريح، متى سيكتفي الإنسان من تقديم القرابين لأرباب الحروب؟ لم أجد حتى اليوم إجابة للسؤال الذي ولد معي وكبر معي وربما يموت معي، فعلى هذه البسيطة متسع للجميع فلماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟!