فيلم الثورة العربية الكبري: ليس بالمستوى!
أ.د. عصام سليمان الموسى
21-09-2016 02:36 PM
حين ظهر اسمي تحت عنوان (شكر خاص) مع مجموعة زملاء في آخر القائمة الطويلة للمشاركين في صنع هذا الفلم الذي بثه التلفاز الأردني أيام 16 و17 و18 من الشهر الحالي، وجدت من الضروري ان أقول كلمتي إظهارا للحق.
انطباعي الأول والعام أن الفيلم قدم الثورة العربية الكبرى بحسب الرؤية الإنجليزية للأحداث، وكان طبيعيا لمخرجيه تقديم المغفور له الشريف الحسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى، بصورة الشخص الذي لم يصنع الحدث ، بل بصورة الشخص الذي كان خاضعا للظروف التي أملت عليه القيام بالثورة . لذا جاء دور الشريف باهتا، ضعيفا، وغير مقنع، وبأنه لم يجد أمامه من خيارات الا الثورة حفاظا على موقعه. هذه الصورة هي التي يروج لها الأنجليز خاصة (والغربيون وآخرون من العرب) الذين هدفهم التقليل من أهمية الثائر والثورة معا. يحدث ذلك في مواجهة بعض المؤرخين العرب، ومنهم والدي رحمه الله، الذين أنصفوا الشريف وقدموه على حقيقته قائدا ثوريا وشخصية فذة قوية الشكيمة لا ترضى المساومة على حقوق العرب ، فاستحق عن جدارة لقب ملك العرب وقائد النهضة العربية.
ما يرفض الاعتراف به هؤلاء ان الثورة جاءت استجابة لآمال العرب القومية التي تبلورت في بلاد الشام والتي تبناها عن قناعة الشريف الهاشمي واولاده وأتباعه وخاضوا المعارك من أجلها، وان الشريف كان قائد محنكا صاحب مكانة وقرار، وكان الحلفاء بحاجة له في مجهودهم الحربي، فعاهدوه في البداية، ثم تنكروا لوعودهم بعد ان حققوا النصر.
لقد عمل مخرجا الفلم، الألماني رولاند ماي ورفيقه أصيل منصور، على تبني وجهة النظر الأنجليزية بالكامل، هذه النظرة التي حدد ايقاعها الباحث البريطاني (يوجين روجان)، الراوية الرئيسي للأحداث التاريخية في الحلقات الثلاث، وقدما لنا أحداث الثورة من تلك الزاوية التي بلغت القمة في الاستهانة حين ظهر تشرشل بصورة مراب (يذكر بشيلوك)، لا أكثر، "يهب المُلك" (الضمة فوق الميم) ويساوم فيصل وعبدالله، نجلي الشريف، كمنة ومكرمة منه، لولا اشارة خجولة سريعة اضطر المخرجان "لحشوها"، صدرت من الملك فيصل باستحياء بضرورة اجراء استفتاء على تنصيبه ملكا على العراق.
الحقيقة المرة التي يتبناها المؤرخون الغربيون (وتلامذتهم العرب الذين يؤيدون وجهة نظرهم) ان فيصل اصبح ملك العراق بإرادة شعبيه بعد ان كلفت الثورة العراقية في العشرينييات البريطانيين الكثير، بل ان الصحافة البريطانية وصفت العراقيين بانهم شعب ليس من السهل حكمه (unruly)، فوجدوا المخرج لمأزقهم باقتراح المُلك (الضمة فوق الميم) على فيصل، لكنه كان من النباهة والثقة بنفسه بحيث انه طالب باجراء استفتاء شعبي حققه بسهولة لأنه هاشمي، ولأنه قائد بارز من قادة الثورة العربية دخلت قواته دمشق قبل قوات الحلفاء ورفعت العلم العربي عليها معيدة لها مجدها التليد، بل ان فيصل الواثق من نفسه ومن زعامته طالب في مؤتمر السلام اجراء استفتاء شعبي دفع بالرئيس الأمريكي ويلسون ليرسل لجنة للتحقق من مشاعر العرب القومية، فطالبوا بالوحدة، وبقيادة فيصل ملكا عربيا هاشميا على بلاد الشام كلها.
ومثل ذلك كان مجيء الأمير عبدالله الى شرقي الأردن على رأس قوة محاربة، سرعان ما استقطبت زعامته المناضلين الشرفاء الذين بدأوا بالتوافد والالتفاف حول قيادته لشن حرب على الفرنسيين الذين احتلوا سوريا، فكان المخرج امام تشرشل، وزير المستعمرات، لينقذ حلفائه الفرنسيين، ان يفاوض الأمير، الذي كان من الذكاء بأن طالب بإخراج شرقي الأردن من وعد بلفور. ولم يجد تشرشل أمامه الا الرضوخ رغما عن ميوله الصهيونية. وبعد تأسيس الإمارة واصل الأمير عبدالله دعم الثوار في سوريا، وكان الجيش العربي الجيش الوحيد بين الجيوش العربية الذي حقق النصر في فلسطين عام 1948.
في المجمل أظهر الفيلم نضال العرب ضعيفا "بدويا"، والمؤلم انه اظهر واقعة ميسلون وكأنها عمل انتهازي من الملك فيصل وليس عملا بطوليا قاده الشهيد يوسف العظمة برجولة قل مثيلها، وبالمثل قلل الفيلم من هيبة القائد العربي جعفر العسكري فلم يبرز خيانة الفرنسيين له بوقفهم القصف المدفعي في اللحظة الحرجة نتيجة تنسيقهم المؤكد مع القيادة الانجليزية، مما أدى الى فشل المحاولة وحصد المناضلين العرب.
حاول المخرجان ان يقدما فيلما وثائقيا بطريقة توهم المشاهد ان الثورة كانت كبيرة فاستخدما المؤثرات واللقاءات ببراعة. ولقد تم إلتعتيم ببراعة أكبر على دور الإنجليز الخياني ودور الضابط لورنس، لولا اللقطة الأخيرة له وهو يساوم الشريف الحسين، والتي عكست موقفا ضعيفا، اذ بينت الشريف متهالكا على مقعده ضعيفا يرفض التوقيع على الوثيقة ويلقي بها على المنضدة أمامه فتسقط على الأرض، مما لم يعكس موقفه الحقيقي والمشرف كقائد فذ يتحمل المسؤولية يرفض التوقيع بكبرياء على وثيقة تشتري له ملكا رخيصا مقابل موافقته على انشاء وطن قومي لليهود اراده بلفور وسايكس وبيكو على ثرى فلسطين العربية.
ولم يظهر الفيلم ضخامة الجيش العربي الهاشمي الذي قاد الثورة وقوامه مائة ألف مقاتل، ولم يظهر حنكة الشريف وأنجاله في التعبئة للثورة على أسس قومية استقطبت العرب بمختلف مشاربهم وأديانهم وأحزابهم، ولم يظهر الفلم جهود العسكريين العرب الذين انضموا للثورة عن قناعة وحققوا النصر ضمن امكانات محدودة ، ولم يظهر حقد الإتحاديين على العرب وآثار عملية التتريك وشنق المفكرين العرب في ساحاتي الشهداء في دمشق وبيروت وجمال باشا يتفرج من قصره عليهم. والأهم، لم يظهر الفلم بصورة واضحة خيانة الأنجليز لوعودهم التي قطعوها للعرب الموثقة بمراسلات الشريف مع مكماهون، هذه الخيانة التي ستظل في قاموس المواثيق الدولية وصمة عار أبدية. وتجاهل الفيلم اعتراف مؤتمر السلم بالعرب أمة محاربة خاضت المعارك الى جانب الحلفاء على قدم المساواة.
حين التقت المجموعة التي حظيت في نهاية القائمة "بشكر خاص"- وأنا احدهم، وضمت معالي الدكتور سمير مطاوع رئيس الفريق والدكتور بكر خازر المجالي والسفير سمير عيسى الناعوري والمخرج عناد الكردي- بمخرج الفلم الألماني ماي رولاند، ومرة ثانية معه ورفيقه منصور، في بداية العمل منذ عامين تقريبا، كان هدفنا ان نبرز في الفيلم حقيقة الثورة العربية ودور قادتها المشرف وتضحيات شعبنا وامتنا التي قوبلت بالنكران.
لكننا لم ندعَ للقاء ثالث... وربما لهذا تم الإنعام علينا "بشكر خاص" ، فهل هذه العجالة تبين اننا نستحق ذلك الشكر حقا؟؟
أخيرا، اجد من واجبي القول ان التلفاز الأردني- كمؤسسة وطنية، تغنت كثيرا بالثورة العربية ورجالاتها- ما كان يجب ان يعرض هذا الفيلم على شاشته.